المكان حينما يتم خلقه وإعادة تكوينه بطريقة غير تقليدية

تراير يعود إلى الاستوديو ولكن بطريقة غير تقليدية

صورة للموقع الذي تم فيه تصوير الفيلم («الشرق الاوسط»)
TT

سبق الحديث عن هوية المكان، وكيف أنها تمثل أهمية كبيرة في صورتها المعبرة عن واقعيتها التي تكسبها شيئا من المصداقية. ولكن ماذا لو كان يُفترض بالمكان أن يكون مُحرفا؟ ماذا لو كان جزء كبير من أهمية الصورة السينمائية المقدمة أن يصبح للمكان صورة مغايرة ولو بشكل نسبي عن الصورة الحقيقية؟

في هذه الحالة يصبح تحريف المكان عن صورته الطبيعية عملا ضروريا، لأن الأهمية حينها تنتقل من «الأكثر مصداقية» إلى «الأقوى تعبيرا». ولعل من الأفلام المميزة التي انتهجت هذه الطريقة وسببت ضجة كبيرة حال صدورها هو فيلم Dogville للمخرج الدانمركي لوس فون تراير. ومن المعروف أن تراير هو مؤسس المدرسة السينمائية «الدوغما» بجانب زميله توماس فينتربرغ، وذلك في العام 1995، حيث كان فينتربرغ في بداياته، أما تراير فقد اكتسب شهرة كبيرة بفيلمه Europa الذي كان بعيدا عن روح وأساليب الدوغما. شخصيا، لطالما أحسست أن الدوغما تشابه في رسالتها – غير الواضحة وغير الثابتة – رسالة «المسرح الملحمي» الذي تبناه المسرحي والشاعر برتولت بريخت، بغض النظر عن الاختلاف الكلي في كل شيء تقريبا! بريخت يُصر على أن مسرحياته قصصية قائمة على «الفكرة» وليس على «الشعور»، ولا تعتمد على الحدث أو على التحليل النفسي، بل هي أشبه ما تكون بتجربة عملية، حيث يتم وضع الشخصية في موضع الملاحظة والمراقبة ومن ثم النقد، ولا يتم التركيز على تنامي الشعور جراء تصاعد الحدث والصراع بين الشخصيات، بل على الأفعال الخارجية لها والتي يستطيع المشاهد من خلالها الملاحظة والاستقراء والنقد، بمعنى أنها تعمل على السطح، من دون مؤثرات! والدوغما تريد أيضا أن تعمل على السطح، من دون مؤثرات. إنها لا تعقد الأشياء، أو تجملها أو تشوهها، بل تريدها أن تكون تلقائية ومباشرة، كما هي. بمعنى آخر، هي تريد الحقيقة، كما هو مبتغى بريخت من مسرحه الملحمي، الحقيقة المجردة، حتى ولو كان هذا في سبيل الفن! ولهذا يصرون على قوانين وأنظمة تسمى بـ «قوانين العفة» خلاصتها أنها تصادر كثيرا من الأدوات التي يمتلكها المخرج: المؤثرات، والإضاءة والديكورات المفتعلة، والتصوير في الاستوديو، وتفرض بدائل أخرى: التصوير بالكاميرا المحمولة، عدم الفصل بين الصوت والصورة .. وغيرها. والحجة في ذلك أنها تريد العودة بالفيلم إلى الأساسيات، أي أن تبحث عن الحقائق من دون تدخل الفن في صوره الإبداعية، وذلك بالرجوع إلى أساسيات التعبير الإنساني الخالص. وربما لهذا السبب كان من شروط الدوغما أن لا يتم كتابة اسم المخرج على أنه مخرج، لأنه لم يعد فنانا، وإنما باحث اجتماعي أو طبيب نفسي يحمل بيده الكاميرا!، ليتابع ويراقب ويترصد. كل هذه الشروط، والتنظيرات، والقيود، كسر تراير بعضا منها في فيلمين هما: Dancer in the Dark في عام 2000 و Dogville في عام 2003. ما يهمنا هو Dogville، ففيه خالف تراير إحدى القواعد الموضوعة وعاد إلى الاستوديو، ولكنه عاد بطريقة غير تقليدية بتاتا، لا أظن أن أحدا تجرأ على القيام بها من قبل. المكان في Dogville لم يكن مكونا من مجسمات مرئية، وإنما خطوط بيضاء هندسية على خشبة مسرحية، فليس هنالك جدران أو قواطع، وإنما خطوط بيضاء، ومن داخل هذه الخطوط البيضاء نرى الشخصيات وكأنها تجلس في بيوتها. لقد حرف تراير المكان تحريفا غريبا، ولكنه في ذات الوقت تحريف شيق ومثير. فما السبب الذي يدعوه إلى القيام بمثل هذا التحريف الغريب؟ في رأيي أن السبب الأهم – الذي استشعرته كمشاهد – هو وجود تكون وتراكم وتصاعد لما يشبه التجربة الجماعية أثناء الفيلم. فهنالك فرق جوهري بين المسرح والسينما، سبق أن ذكرته في مقالة سابقة، وهو أنه في المسرح يكون المكان الذي هو الخشبة المسرحية مكشوفا للمشاهدين كافة، قد يضطر مخرج المسرحية إلى اللجوء إلى خدع تقنية كي يحجب جزءاً من المسرح، ولكن في السينما، المخرج يتحكم تماما في تحديد المكان الذي يريد أن يركز عليه، فالكاميرا لدى مخرج السينما – كما أشار أورسن ويلز – هي العين التي يرى من خلالها، والتي يجبرنا أن نرى نحن أيضا من خلالها، لا نستطيع أن نفضح أبعاد المكان، وإنما ما يتسنى لنا مشاهدته فقط، ومن هنا فالمخرج يتحكم تحكما كليا في تحديد المكان. ولهذا أعيد كلمة مارتن إسلن التي أشار فيها إلى أن المشاهد في المسرح (يؤدي عمل المخرج الذي يقوم به لأجله في السينما). تراير هنا جمع ببراعة مثيرة للإعجاب بين المسرح والسينما، حيث أنه يتحكم بالكاميرا التي يوجهها كيفما شاء، ولكنه يفتح مجال الرؤية المسرحية للمشاهد حينما يكشف له أوضاعا أخرى قد يشاهدها من دون وصاية من المخرج. فعندما تأتي المشاهد التي نتأمل فيها شخصية من الشخصيات، أستطيع أنا كمشاهد متابعتها؛ أو الاتجاه ببساطة لمتابعة أي من الشخصيات الأخرى التي تجلس في بيوتها وتكون ظاهرة في إطار الصورة: الرجل الذي يقرأ كتابا، أو المرأة التي تكوي ثيابها بجانب السرير، أو الطفلة التي تقفز فوق الحبل، لأن كل هذه الصور مفتوحة للمشاهد بسبب عدم وجود حدود مكانية لتمنعه من متابعتها بكل حرية. وهو ما يمكننا حينها من ملاحظة واستقراء كافة الشخصيات الموجودة في إطار الصورة من دون حاجة للتركيز عليها من قبل الكاميرا، ما يوفر نوعا من التجربة الجماعية التي تتراكم على مدار الفيلم بشكل تصاعدي. وفي جانب آخر، نجد نوعية من الأفلام الحديثة التي انتهجت تحريف المكان كأسلوب تصويري، وهي نوعية الأفلام التي تعتمد على المؤثرات البصرية بشتى أشكالها وأنواعها، وأغلبها هوليودية الصنع، مثل Sin City وكذلك 300 وغيرها. هذه الأفلام تمت صناعة المكان فيها عن طريق الكمبيوتر كليا، حيث يقف الممثلون أمام شاشة زرقاء، ويقومون بأدوارهم، ثم يتم التلاعب بالخلفية المكانية عن طريق الكمبيوتر وفق أحدث التقنيات لخلق صورة محرفة للمكان. والسبب أن هذه الأفلام في الأصل مقتبسة من سلسلة قصص كرتونية أو ما يسمى بـ «الكوميك»، حيث تتميز بطبيعة سوداوية وحس خيالي جامح، والمغزى من تحريف المكان هو نقل هذه الأجواء الخيالية المقاربة للرسوم الكمبيوترية إلى الفيلم، عن طريق تحريف المكان واللعب بالألوان والتكثيف من الأوضاع الغريبة للصورة. وعلى أية حال، فإن المكان في السينما – كما هي حال الفنون دائما – غير قابل للتحديد، بل هو مفتوح لكل الاحتمالات، يتكيف مع الوضعية التي يختارها المخرج، شريطة أن يكون معبرا عن هذه الوضعية بدقة. وهذا هو جزء مؤثر من جمال الفن، حيث لا حدود إلا ما يفرضه المبدع على نفسه أو ما تجبره عليه إمكاناته.