استعراض تاريخي للسينما الهولندية

المهرجان الدولي كليرمون فيران للأفلام القصيرة

ملصق المهرجان
TT

[email protected] أربع عشرة صالة عرض تعرض في وقت واحد عدة برامج مختلفة، يتفاوت سعة كل منها من حوالي 200 مقعد لأصغرها إلى 1500 مقعد لصالة كوتو الكبرى في مركز ماسيون الثقافي. تعرض كل واحدة على الأقل خمسة عروض يومية مختلفة، يمتد كل عرض لساعة ونصف تقريبا، إنما وعلى الرغم من ذلك فإنه المحتمل دائما ألا يحالفك الحظ بمقعد شاغر إن لم تكن موجودا أمام القاعة على الأقل قبل عشر دقائق من بدء كل عرض. هذا هو الوضع في مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة، الذي يقام في مدينة كليرمون فيران الصغيرة والهادئة والتي تقع على بعد أقل من 4 ساعات جنوب باريس. ضيوف المهرجان والمهنيون الذين حضروا خصيصا للمهرجان هم عند مقارنتهم بمهرجانات دولية كبرى محدودون نسبيا ولا يمثلون الجمهور الرئيسي لبرامجه، فالمهرجان يغذيه بصورة أساسية سكان المدينة، وعلى الأخص طلبة الجامعات والكليات التي تحتويها المدينة والتي تقام معظم العروض في صالاتها الرئيسية. وبتحديد انطباعي غير دقيق، فإن متوسط الأعمار لا يتجاوز الثلاثين، وإضافة إلى ذلك فعدا الضيوف المدعوين للمهرجان فإن على الجميع أن يدفع لكل شيء، بدأ من كتالوج الأفلام المعروضة في المهرجان وبرامجه إلى تذاكر دخول العروض وملصقات المهرجان وانتهاء بالقلم المضيء الذي يستخدمه كثير منهم لكتابة ملحوظاتهم وتعليقاتهم حول الأفلام المعروضة في الثواني القليلة التي تفصل كل فيلم عن الآخر. ورغم متوسط الأعمار الصغير نسبيا إلا أنه وعلى العكس مما هو ملاحظ لدينا مع جمهور مهرجاناتنا العربية فإن الصالات تغط في صمت عميق حال إطفاء الأنوار إيذانا ببدء العرض، ويستمر الأمر على هذا المنوال طوال العروض وبعض النظر عن جنسية الفيلم المعروض أو جودته أو غموضه أو حتى موضوع أو صنعة الفيلم المستفزة أحيانا بشكل لا يطاق. هذه المقدمة الطويلة نسبيا والوصفية والانطباعية برأيي مهمة لأنها تؤكد أحد أهم الظواهر الأخلاقية التي يتمتع بها هذا الجمهور تجاه مهرجانه، وهو نموذج من نماذج كثيرة تشاهدها في دول العالم المتقدم في الشرق والغرب، وهي ما نفتقدها لدى شريحة واسعة جدا من جمهورنا العربي الذي يفضل تناول وجبة دسمة وتدخين الشيشة وتبادل الأحاديث المكررة طوال ساعتين أو ثلاث في أحد المقاهي أو المطاعم المجاورة على أن يحضر عرضا فنيا «بالمجان» لا يبعد عدة أمتار عن ذلك المقهى. وهذا غير عائد مطلقا إلى خلل في الخريطة الجينية العربية، وإنما إلى غياب وعي تتحمل جزءا كبيرا منه المؤسسات الثقافية والفنية وإدارة المهرجانات العربية ذاتها. فليس المهم أن نقيم مهرجانا، وإنما أن نشيع وعيا فنيا من خلال ذلك المهرجان. وهذا ما يحيلنا إلى محور آخر، هو المهرجان ذاته وإدارته، فمهرجان كليرمون رغم رياديته المهنية سواء في فرنسا أو حول العالم، فهو مهرجان بسيط بمظاهره، فلا وجود لحفلات صاخبة، ولا لأضواء النجوم، وعدا المقهى والمطعم المقابل لمقر المهرجان والذي يعج بضيوف المهرجان فلا تكاد تكون هناك أي مظاهر شكلية أخرى خارج المهرجان، كما لا وجود لمتطوعين بأعداد مهولة لا يفقه أي منهم ما هي مهمته أو ما الذي يقدمه المهرجان الذي تطوع لأجله. فهو مهرجان قائم بكل ما فيه على جهود طاقم إداري وفني محدود، وشخص أو اثنين أمام كل صالة لقطع التذاكر وإحصاء الحضور. المهرجان افتتح فعالياته الجمعة قبل الفائتة في قاعة كوتو في احتفال بسيط استعرض فيه لجنة التحكيم وعرض لكل منهم فيلما من أفلامهم السابقة وتم نقاشها بشكل سريع على خشبة المسرح مع مخرج العمل. وعرض طوال المهرجان حوالي 190 فيلما داخل المسابقة، مدرجة تحت ثلاثة أقسام برامج، المسابقة الدولية في دورتها الحادية والعشرين والمسابقة الفرنسية في دورتها الحادية والثلاثين وأخيرا مسابقة المختبر «اللابو» في دورتها الثامنة. إضافة إلى عدد من برامج البانوراما المصاحبة.

 استعراض تاريخي جميل ومهم وبرنامج بانورامي خاص حول الفيلم القصير الهولندي يعطي من خلالها تصورا جيدا حول موروث هولندا الفني والثقافي والذي غالبا ما وصف بانفتاحه الفكري والمعرفي وحدته وجرأته في مناقشة أفكاره من دون قيود تفرضها محرمات فنية أو اجتماعية، عرفية أو لاهوتيه، في استعراض سينمائي منذ الستينات وحتى الوقت الحالي. من هذه الأفلام التي تعبر بحدية عن أفكارها أفلام من مثل فيلم «Als Wij Groot Zijn» لمخرجته ايفيلين كيترينج من إنتاج عام 2006، وهو فيلم يقدم مقطوعة شاعرية مذهلة مصورة تحت الماء بصفاء بديع تنتهي بدم بارد وصورة صادمة بقتل طفولة مليئة بالحياة، صورة تختلط فيها شاعرية وجمال عناصر الصورة سواء الموسيقى وانسيابية حركة الماء وبراءة الجسد وجماله بقبح المأساة في تناغم إيقاعي محكم. وأيضا أفلام مثل فلم التحريك «God on Our Side» من إنتاج سنة 2005 وإخراج ميتشال فايفر ويوري كارنوت، الذي يقدم الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في قراءة حادة وتراجيدية لمأساة إنسانية تقع هناك في فلسطين ضحية صراع لا إنسانية فيه، الفيلم يستلهم لوحة بيكاسو التكعيبية الشهيرة «غورنيكا guernica» في إسقاطها على الوضع المأساوي في فلسطين.

 

* ألوان الكوميديا الموسيقية

* وفي برنامج بانورامي آخر قام المهرجان بتنسيقه أيضا تأتي واحدة من أقدم الثيمات السينمائية «الكوميديا الموسيقية». ولكن وإن كان لهذه الثيمة شكل عام ونمط شائع من خلال سينمات شهيرة كالسينما الأميركية، فإن المهرجان ومن خلال هذا البرنامج بالذات يحاول أن يكسر النمطية التي تنال ثيمات شهيرة في فنون السينما، وأن يخرجها من محيطها التقليدي إلى مناطق واسعة لا حدود لها. ولتحقيق هذا الغرض تم اختيار أفلام، إضافة إلى تماثلها في الثيمة، متقاربة من حيث الموضوع، إلا أن تباين خلفياتها الثقافية والاجتماعية أدى بالدورة إلى تغيير في الشكل مع الحفاظ على الثيمة العامة. نذكر مثالا على ذلك، موضوع الموت الذي تناولته ثلاثة من الأفلام أحدها من أميركا بعنوان «Petunia» وآخر من كوريا بعنوان «The Apple» والأخير من زيمبابوي بعنوان «Mother"s Day»، وإذا تجاهلنا الأول باعتباره ربما تقليديا في عرضه الموسيقي إلا أنه بدا من الواضح جدا تأثير الثقافة والطقوس المحلية وحضور الأسطورة في العملين الآخرين وتحديدا في الفيلم الزيمبابوي الذي كان استعراضا غنائيا شعبيا تحكي حكاية أسطورية لأم قتلها زوجها بأنانية أمام أبنائها ليتغلب بها على مجاعة اجتاحت البلاد في عصر مضى، حينها يحاول الأبناء التواصل مع أمهم وما تبقى منها من خلال الغناء والرقص. الأسطورة هنا لم تكن بذاتها كوميدية إلا أنه تم استثمار التناقضات المنطقية داخل هذه الحكاية التراجيدية لنسج نفس كوميدي مصدره تعارضات الأسطورة ولا غير. وهو مثال جيد للاستفادة من الموروث الشعبي والأسطوري في ثيمات لا يبدو انه من الممكن أن تكون وسطا ملائما لها. الفيلم من إنتاج عام 2004 وهو من إخراج تيسيتسي دانجارمبقا.

* مسابقة «المختبر»

* أثرت الحديث في هذا الاستعراض حول مسابقة «المختبر» بالذات لأنها في الواقع تمثل تجربة مهمة في صناعة المهرجانات. أهميتها جاءت بعد أن بدأ الفيلم القصير في العقد الأخير من القرن الفائت بالسقوط شيئا فشيئا في النمطية السردية، وان يقع أسير الحكاية. وإن كان الفيلم الطويل قد وقع منذ زمن طويل في هذا المستنقع، فإن الفيلم القصير حافظ على طوال تلك المدة على ريادته في التجديد وخوض تجارب جريئة جاعلة من السينما فنا فريدا بحق. مسابقة «اللابو» هي لذلك النوع من السينما المتعالية، سينما الثورة والاحتجاج سواء في الصورة أو الشكل أو الموضوع. عرض في هذا البرنامج عدة أفلام متميزة. على سبيل المثال ثلاثة منها من بلجيكا والنرويج والبرازيل عرضت على التوالي وتناولت إعاقات حسية مختلفة، الحركة، البصر، والسمع. وكل منها يحكي مصادفة حكاية حقيقية، إنما بصورة غير تقليدية مطلقا، ففي حين عرض فيلم التحريك «Orgesticulanismus» لذلك الفضاء اللامحدود الذي يعيشه رجل يعاني إعاقة حركية، فإنه في مقابل ذلك ولكي يستعرض محدودية حركته الفعلية، فإنه قام بذلك من خلال صور حركات اعتيادية متعاقبة لنشاطات روتينية لا شعورية، ثم يفرض عليها مقاومة تعيقها من إكمال حركتها لتعيدها إلى حيث كانت وذلك بربطها أحبال مطاطة ذات مرونة محدودة. الفيلم النرويجي «Lydskygger» من جهة أخرى يعرض إلى الإعاقة البصرية عبر سوقه لعدد من البدائل الحسية لفتاة عمياء، ومن خلال الصورة فقط وتعليق بسيط نشاهد هذه الإحساسات الداخلية كما لو كنا نحن هي. الفيلم الثالث هو الفيلم البرازيلي «Saltos» حول لاعب رياضي يفقد وبشكل تدريجي قدرته على السمع. الفيلم خال تماما من أي تعليق صوتي، إنما هو الأصوات اليومية التي يفترض بهذا اللاعب سماعها، الصوت بأعلى درجاته ولا غير. جوائز هذا الفرع لم تذهب إلى هذه الأفلام التي ذكرناها رغم جماليتها الخاصة، لكنها أيضا ذهبت إلى أفلام تستحقها من دون شك. الجائزة الكبرى ذهبت إلى فيلم التحريك الإيطالي «Muto»، هذا الفيلم لا حكاية فيه، إنما هناك إبداع تشكيلي وسريالي مذهل ذو إسقاطات بليغة على القذارة التي تعيشها شوارع بائسة في ريو دي جانيرو، عبر جدرانها الشاحبة، وأزقتها المتهالكة، ومجاريها العفنة. جائزة الجمهور ذهبت إلى فيلم «Yellow Sticky Notes» الكندي، وهو فيلم تحريك ظريف ومشغول بشكل جيد، وهي مجرد عرض يوميات قام بكتابتها مخرج الفيلم منذ سنوات وحتى الانتهاء من الفيلم.

* المسابقة الدولية والأفلام الفائزة

* كان من المفاجئ للجميع فوز الفيلم الماليزي «Everyday Everyday» بالجائزة الكبرى في المهرجان، وذلك عائد بالدرجة الأولى إلى بساطة إنتاجه وميزانيته المتواضعة جدا، إلا أنه وكما أصبح من غير المستغرب مؤخرا ألا يحظى ضخامة الإنتاج بالأهمية التي يوليها لفرادة الموضوع. وهو ما حدث تماما مع هذا الفيلم البسيط. الفيلم بكل بساطة يحكي علاقة زوجية تقليدية جدا وغريبة جدا، فهناك زوج يحب زوجته كثيرا، لكن لا يمنع انه في قرار نفسه يفضل أشياء تافهة على أن يتركها كالتدخين مثلا، في المقابل ودون أية مقدمات تقرر الزوجة الرحيل إلى البيرو لا لشيء إلا لأنها تقرر أن تعيش أجواء أخرى، وأنها ابعد المناطق عن ماليزيا. يدخل بعدها الزوج في ارق من موقف زوجته التي يخشى أن تعزم فعلا على الذهاب والرحيل دون حتى أن تودعه. والمميز فيه ليست الحكاية بقدر ما هي الحوارات الضحلة والفارغة التي يناقشانها وصلت علاقتهما إلى مرحلة من الروتين اليومي غير المحتمل. وأفضل فيلم كوميدي جاء من نصيب الفيلم العبثي الهولندي الرائع «Success». وفاز الفيلم الإيطالي «L" Arbitro » بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. الأفلام العربية لم يكن لها أي نصيب من تلك الجوائز، إلا أنها رغم ذلك فقد كانت في معظمها ذات مستوى عال جدا، وسيكون لنا وقفة خاصة معها في قراءة لاحقة. وأود في خاتمة هذا المقال، وحتى لا أكون قد تحدثت هنا عن ما لا يستطيع القارئ مشاهدته، فبعض هذه الأفلام متوافرة على شبكة الإنترنت بشكل مجاني، كما أن المهرجان يوفر على شبكة الانترنت مشاهدة مباشرة لعدد من الأفلام ضمن مكتبة ضخمة على شبكة الانترنت وبسعر اشتراك غير ربحي ومعقول لمدة عام كامل، كل ذلك عبر موقع المهرجان «http://www.clermont-filmfest.com»