خالد الصاوي.. الراقص فوق أنياب الواقع

صحافي في «عمارة يعقوبيان» وثائر متمرد في «اللعب في الدماغ»

خالد الصاوي مع تيم الحسن وخالد محمود («الشرق الإوسط»)
TT

مثل سبائك الذهب، ومناجم الفن الخام اختار خالد الصاوي كينونة موهبته، أراد لها أن تتعتّق بين جمهوره، الذي التحم به، واشتبك باسم حبه له مع الواقع لمصارعته والانتصار عليه. فبين الحين والآخر تومض موهبته ثائرة على خشبة المسرح، أو خجولة بين سطور دواوين الشعر، أو مخيفة مفترسة على شاشة الفن السابع، تتحدى تغير أبجدية النجومية بحسب مقاييس العرض والطلب، أو بحسب تقلبات الأمزجة والأهواء، لكنها في كل الأحوال تتمرد على أسوار رأس المال الفني.

هو طبعة جديدة من صلاح جاهين ونجيب سرور وعبد الرحمن الخميسي وسيد بدير، يحتفظ بعصارة الفن، ثم يخرجها إبداعا بصور مختلفة، أو يحولها إلى ذخيرة تتوزع على أسلحة متنوعة في معركته كفنان ومثقف عضوي نادى به جرامشي من عشرات السنين.

ولد خالد الصاوي بالقاهرة في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962، وقص شريط حياته الفنية أثناء دراسته في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في بداية الثمانينات على المسرح الجامعي، وقتها كان المسرح جزءا من مشروع يساري نضالي اختاره لنفسه، وتعرض بسببه لانتقام السلطة ممثلة في إدارة الجامعة وأمنها، وكان أبرز أعماله الأولى «الغفير» التي كان مخرجها ومؤلفها وبطلها أيضا بصحبة مجموعة من زملائه.

تسببت مشاغبات الصاوي السياسية في سحب جائزة الطالب المثالي بالجامعة التي حصل عليها عام 1981 منه، ثم فصله من الجامعة لأسبوع وحرمانه من الانتخابات الطلابية في العام التالي، وسرعان ما جاءت ردود أفعاله الحادة مسرحيا، بعروض تشتبك مع الواقع السياسي وانكسارات ممثلة في اجتياح لبنان وتوغل قيم الانفتاح الاقتصادي التي سادت منذ منتصف السبعينات، فقدم «الدبلة» و«المزاد»، مع ديوان شعري اسمه «بعث الخيول» توارى صداه بجانب ثورية مسرحه.

عقب تخرجه في الحقوق أدخلته الحياة في ورشة عمل غير مباشرة لصقل مواهبه، فدرس السينما، وعمل صحافيا تحت التمرين ومترجما ومخرجا مساعدا للأفلام القصيرة بالتلفزيون المصري، كما درس الفلسفة والنقد الفني، في تلك الفترة قدم فيلمه القصير الأول «وادي الملح»، ثم تبعه بفيلمين هما «الحب في مصر» الذي يرصد مفهوم الحب بين ثنائية الشارع والقصر، والثاني «قرية العمار» ويرصد معاناة قرية مصرية فقيرة تعيش على عائد بيع محصول المشمش الذي تشتهر به، كان التلفزيون ميدانا جديدا لمعاركه الفنية خاصة مع اصطدامه بتغول الرقابة ويدها الطويلة عندما نفذ «كليبا» يهاجم مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية عام 1994 بشكل غير مباشر، واستعان فيه بأغان تعود للستينات كخلفية صوتية للقطات من المؤتمر، تظهر غرضه وكأنه عودة للاستعمار، وكاد الكليب يمنع من العرض لولا تدخل حسن حامد المسؤول الكبير في ماسبيرو وقتها.

مع تعدد القيود، وبيروقراطية الإعلام، عاد الصاوي لسلاحه القديم المسرح، فتشبث به كصديق يتسع صدره لشطحاته، ولا يضيق بثوريته، فحصل على جائزة تيمور للإبداع المسرحي لعامين متتاليين، مع نشره لديوان شعري هو «نبي بلا أتباع» ومجموعة قصصية قدمها عبقري القصة القصيرة يوسف إدريس هي «يوميات الخلود».

عام 1997 وبعد كثير من التخبط والاكتئاب وتجارب التمثيل الثرية التي لم تنجح في الإجابة عن سؤال مؤلم لحلاقه الخاص «هو انت خلصت الحقوق يا أستاذ ولا لسه، ولما بتشتغل ممثل أمال ما بنشوفكش ليه»، عرض مسرحيته الميلاد، شعر الصاوي أنه حقق ذاته فيها. فمع نجاحه الجماهيري كانت مشاعر الانتصار تملأه، خاصة أنه كتب فيها شخصيته وملامح مشروعه، كفنان يرصد بالكوميديا السوداء أمراض مجتمعه القمعية في مؤسساته المختلفة بداية من المدرسة إلى مؤسسات الدولة التي يتعامل معها المواطن بشكل دوري.

جاءت للصاوي الفرصة مرة أخرى لينشر ثوريته الفنية على نطاق أرحب، عندما عرض عليه السوري أنور قوادري دور جمال عبد الناصر في فيلم يحمل نفس الاسم، لكن تعثر المشروع ككل والنجاح الجماهيري الفائق لأحمد زكي في ناصر 56 هوى بالفرصة إلى الحضيض، واتهم الصاوي وقتها بالأداء المسرحي البعيد عن حساسية السينما، وهوت مساحة أدواره في السينما وتقلصت مثلما شاهدناه في أعمال كـ«السرير» عام 1999، «عاصفة من الماضي عام 2003، ،«نحب عيشة الحرية» عام 2000، وعاد مرة أخرى للأدوار الصغيرة التي بدأها بـ «فارس المدينة» عام 1992.

أدى هذا الجو إلى أن يغرق الصاوي مرة أخرى في نوبة «موت مؤقت»، وأن دخل مع الحياة في مباراة «كيك بوكسينج» بحسب تعبيره.

لكن سرعان ما عاد مرة أخرى خالد الصاوي لصديقه الحميم «أبو الفنون»، فقدم عرضا مشتركا مع فريق مسرحي سويدي لنص شكسبيري، نجح بشدة في كل من القاهرة والسويد، ثم كان النجاح الساحق لمسرحيته «اللعب في الدماغ» التي أجبر الرقابة على الموافقة عليها، بعد ضغوط ثقافية عديدة وإشادات نقدية بالنص، ثم جاءته الفرصة الأبرز في تاريخه، وهو دور الصحفي الشاذ في فيلم «عمارة يعقوبيان»، وهو الدور الذي رفضه كثير من نجوم مصر، ومنهم فاروق الفيشاوي الذي خاف من أن يلتصق التمثيل بالواقع في ذهن المتلقي، ومستشهدا بزملاء له عانوا من تبعات تمثيلهم للدور في أعمال سابقة، ومنهم يوسف شعبان في حمام الملاطيلي، كما اعتذر محمود حميدة بعد خلاف على الأجر. اختار الصاوي كعادته كسر التابوهات، والمغامرة، وحقق نجاحا استثنائيا غير مسبوق، واستطاع إقناع المشاهد بأنه أمام ضحية ظروف مجتمعية تستحق الشفقة، وتجلى ذلك في مشهدين مؤثرين أولهما وهو يناجي صور والديه في نوبة «فلاش باك» باكية، عن ذنبهما بحقه، والثاني وهو يحاول إغواء (باسم سمرة) بشرعية ما يرتكبانه من جرم.

لفت يعقوبيان أنظار الجميع أنهم أما موهبة حقيقية، فازدادت أهمية أدواره حتى لو لم تتسع مساحتها، فأبدع في دور الطبيب النفسي الماهر والمخادع في «كده رضا» مع أحمد حلمي، كما كان دور الضابط رشدي في «الجزيرة» مؤثرا رغم تقلص مساحته، وكذلك دور «بلعوم» المطرب الذي يفقد جماهيريته في «كباريه» أمام نجم صاعد جديد بأدوات مختلفة.

تزامنت نجاحات الصاوي في السينما مع نجاحات تلفزيونية أبرزها دور مصطفى أمين في مسلسلات «أم كلثوم» و«محمود المصري» و«من أطلق الرصاص على هند علام» لنادية الجندي، وأخيرا «نار ورماد» مع أيمن زيدان العام الماضي.

نجاحات الصاوي وانتصاره في معاركه الشهيرة، وتقديم ما يريده من أفكار، والحلم بتغيير الواقع وذائقته الفنية، لم تمنعه من التنازل قليلا، فسجن نفسه أحيانا في أدوار نمطية كالشرير الكوميديان، أو الضابط الفاسد، كما شارك في أعمال فشلت جماهيريا ونقديا كـ«حسن طيارة»، و«العيال هربت»، لكنه، من واقع التجربة، وبعيدا عن حسابات الربح والخسارة كسب كثيرا، وعرف كيف يخلق التربة أو الفرصة المناسبة لتألق موهبته السينمائية، وفي أعمال جادة، كان آخرها «ميكانو» .

في اللحظات الحاسمة يعرف الصاوي كيف يبكي بدمع واقعي جدا، وفي الوقت نفسه يعرف كيف يشهر الضحك شهادة على البكاء في زمن الضحك نفسه، زمن أصبح الكثيرون فيه يتصورون أن الشمس لن تشرق غدا إلا من ورق العملة الرديء، وربما لذلك لا ينسى الصاوي أن فضاء المسرح حلبته الأم وساحة حربه وحلمه، وأنه من خلالها اخترق بنجاحاته مواقع أخرى في الواقع كانت حكرا لسنوات على أعمال كوميدية منزوعة الدسم، فها هو يستعد لتقديم أول أعماله كمؤلف سينمائي «السفاح»، إضافة إلى تفاعله اليومي مع مشاكل مجتمعه من خلال مدونته التي كتب عليها كلماته المروية بعشق ترابه:

«إحنا العيال والعاصفة ولعب العيال في المرج إحنا الخيول اللي جامحة بدون لجام ولا سرج إحنا النواحي والنواصي وريحة الكشري إحنا التلامذة واحنا الورشة والصبيان إحنا الخنادق وصرخة عسكري غلبان واحنا جميع الحاجات دي يا مصر يا عمري»