سخرية لبقة

TT

* من بين الأفلام العربية القصيرة الجيدة والمتميزة التي شاهدتها في مهرجان كليرمون فيران لهذا العام كان فيلم «زيارات يوم شتوي» للمخرج المصري الشاب إسماعيل حمدي. الفيلم هو مشروع تخرج قدمه حمدي، باسم المعهد العالي للسينما. وهو أحد تلك الأعمال التي قدمها في السنوات الأخيرة مجموعة من الشباب المصريين، أصحاب فكر مغاير ودوافع حقيقية وحماس كبير لإحداث تغيير شامل في السينما المصرية، وهو إذا ما استمر على ذلك سيحدث دون شك انطلاقة أخرى متميزة لسينما كانت وما زالت الصناعة السينمائية العربية الوحيدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. الفيلم يحكي ليلة في حياة شاب يواجه مشاكل شخصية تدخله في مواجهة ليلية مع دورية أمنية. وقد احتوى في بعض أجزائه على مشاهد حفلة يقيمها مجموعة من الشباب الخليجيين في شقتهم الكائنة في بعض الأحياء المصرية الراقية، ويقوم فيها الشاب المصري باستغفالهم وخداعهم للاستيلاء على مبلغ هو في حاجة ماسة إليه. بعد انتهاء عرض الفيلم قام المخرج بالاعتذار إليّ إن كانت تلك المشاهد قد ساءتني - باعتباري خليجي الانتماء - وانه لم يكن يريد سوى إظهار الواقع كما يراه هو. وبينما هو كذلك عادت بي الذاكرة إلى واقعة كنت أحضرها قبل عدة سنوات، عندما قمت بحضور عرض لمجموعة من الأفلام القصيرة الخليجية، كان أحدها يقدم رجلا من جنسية عربية أخرى بطريقة كاريكاتورية ساخرة، وكان يجلس بجانبي كاتب وناقد من ذات الجنسية. إلا أن الناقد اللبق لم يستطع كبح غضبه والبقاء هادئا طوال ذلك المشهد الذي لم يتجاوز الدقيقتين، فقام برفع صوته داخل القاعة قاذفا سيلا من الشتائم البذيئة على صانع الفيلم وكل من شارك معه، دون وضع اعتبار لأي شخص كان حاضرا في قاعة العرض، ويود إكمال مشاهدة الفيلم. إن هذه الواقعة وحادثة الاعتذار الذي قدمه إسماعيل حمدي لخوفه من ردة فعلي هي جزء من مواقف سلبية لا تنتهي، نمارسها نحن أفرادا وجماعات تجاه أي رؤية فنية ساخرة، سواء كانت موجهة لنا كشعوب أو كأفراد، أو موجهة لأعرافنا وتقاليدنا، أو لثقافاتنا ومعتقداتنا. وإن كانت أقل حدة في حال كانت هذه السخرية من شخص ينتمي لذات الفئة، فهي أشد وأكثر حدة إن كانت موجهة إلينا ممن هو خارج دائرتنا الاجتماعية. اضطر فنانونا وكتابنا وممثلونا الكوميديون إلى اللجوء إلى الترميز أو نزع الهويات الشخصية والمكانية والزمانية من أعمالهم، حتى لا تنعكس على صورته كشخص «لا أخلاقي» و«غير مؤدب» ودون «لباقة»، وهو ما أفرغها بالطبع من وظيفتها الساخرة وقسوتها الكوميدية. لطالما كانت السخرية فنا مستقلا بذاته في ثقافتنا العربية، وفرعا مهما من فروع الكوميديا في موروثاتنا العربية القديمة سواء في الشعر العربي مثلا، أو من خلال النوادر والطرف التي تناقلتها الشعوب ودونتها المدونات القديمة والحديثة، وكان لكثير منها أن كانت عينا من عيون الأدب العربي، وفنا يمارس بعضا من حريته دون قيود. إن هذه الخطوط الحمراء صنعت لاحقا، وأصبحت فيما بعد حاضرة في مخيلتنا العربية، وصنعت لذلك أبراجا عاجية لرموزنا وشخصياتنا وأعراقنا وأعرافنا، فمن هذا الذي يجرؤ على السخرية من أغنية لأم كلثوم مثلا أو عبد الوهاب؟ ومن ذا الذي يمكنه الإقدام على تقديم فاتن حمامة بصورة كاريكاتورية مثلا؟ من يقدم على ذلك فهو منحط فنيا وأخلاقيا، والمصري الذي يقوم بالسخرية من الشخصية الخليجية هو منحط بالضرورة، والخليجي الذي يسخر من الشخصية المصرية هو بذيء بالضرورة، والسوري الذي يسخر من اللبناني هو غير متحضر، واللبناني الذي يسخر من السوري هو عدائي. السؤال هو: متى وأين وكيف كانت السخرية لبقة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ستأتي حتما في الوقت الذي أستطيع أن أشاهد فيه فيلما مصريا يسخر من خليجي وأضحك ملء فمي، ويشاهد المصري فيلما غير مصري يسخر من مصري ويضحك ملء فمه. السخرية لم تكن أبدا في يوم من الأيام لبقة.

[email protected]