الإثـارة في السينما

السينما في جوهرها تقدم قصة قبل كل شيء

هيتشكوك أشهر مخرجي أفلام الرعب («الشرق الاوسط»)
TT

قبل أن تكون السينما مجموعة من الصور والأدوات الجمالية والسردية؛ فإنها في جوهرها تقدم قصة قبل كل شيء. في الأعمال الإبداعية سواء السردية كالرواية أو الدرامية كالسينما والمسرح، تعمل الإثارة والتشويق على مستويين اثنين. الأول هو المستوى الخفي، وهي الإثارة التي يحملها تتابع القصة. فكل قصة لها تتابع في الأحداث أو تحوُّل في الشخصيات، لا نكتشفه إلا مع مرور الوقت، وبالتالي فإنه يعكس نوعاً من الإثارة التي تجعلنا ننتظر ما الذي سيحدث، رغم أنه لا يوجد في هذا التتابع أي سرعة حركية أو لغز غامض. وهذا النوع من الإثارة لا يمكن أن تتواجد أي قصة في أي حالة كانت دون أن يكون فيها، ولكن الاختلاف يتمثَّل في كيفية تقديمه، وتمثيله. فمتى تتحوَّل الشخصية، وكيف؟ ومتى نضع الحدث المحوري، وبأي طريقة؟ هي الاختلافات التي تميز عملا عن آخر.. كما أن الأسلوب التركيبي الذي يتَّبعه القاص في كيفية تركيب قصته يؤثر كثيراً في رفع وتيرة الإثارة الخفية. ففي رائعة الأرميني أتوم إيجويان مثلا The Sweet Hereafter الزمن يصبح عاملا مهما في تكوين الإثارة الخفية، لأن التنقل الزمني بين الماضي والحاضر يفرض نوعاً من الترقب في اكتشاف الفروق التي نشاهدها بينهما. وفي أفلام الشخصيات كمثال آخر، تتركز الإثارة في متابعتها وما سيتطور فيها، كما نرى في رائعة بيرجمان Autumn Sonata، حيث يتقيد المشاهد بإثارة من نوع خاص، إثارة تخلقها الشخصيات بتواجدها وحيويتها، وبكيفية بنائها وتحوُّلها وتفاعلاتها. هذا النوع من الإثارة الخفية يجب أن يكون موجوداً في كل قصة، لأن العمل من دونه يبدو متهالكاً، وثقيلا، يجب أن يكون هنالك شيء من التشويق والإثارة والغموض التي تجبر المشاهد بطريقة أو بأخرى على الاندماج والتعلق بالعمل. أما المستوى الثاني فهي الإثارة الظاهرة، وهي التي تكون واضحة للمشاهد، إما بحركيتها كما في أفلام المغامرات والأكشن، أو بغموضها وألغازها كما في أفلام الجريمة والرعب. وهذه الإثارة تعتمد على تراكيب سينمائية سردية كثيرة تختلف من عمل إلى آخر.. مشكلة هذا النوع من الإثارة أنه غير مقدر فنياً، حيث يرتبط بمفاهيم شعبية حول المغامرة والجريمة والخرافة. فالفكرة أن هذا النوع من التشويق ليس موجوداً في الحياة، ولذا قام الروائي جيمس جويس بكتابة روايته الشهيرة «أوليسيس» التي تحاكي جزئية عودة البطل أوديسيوس بطل «أوديسة» هوميروس بطريقة شديدة الواقعية مخالفة أشد المخالفة لملحمية هوميروس، حيث أشبعها جويس بتفاصيل موغلة في الدقة، وكأنه يخبرنا أن الحياة بحث مستمر، ولكنه بحث ممل، وبطيء، ورتيب. وإذا أخذناها من هذا الجانب، فقد تكون الإثارة تحريفاً للحياة، لأغراض غير فنية، وإنما لأجل كسب المشاهد فقط لا غير. ومن هنا أصبح يُنظر إلى كتاب ومخرجي الإثارة والغموض على أنهم كتاب ومخرجون جماهيريون، غرضهم إثارة الجمهور حتى ولو كان على حساب العناصر الفنية البحتة. ولكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة، فالمخرج الشهير ألفريد هيتشكوك استطاع أن يجمع بين جانب الإثارة في شكله الجماهيري بجانب تركيزه على العناصر الفنية الدقيقة التي جعلته واحداً من أفضل الأسماء في تاريخ السينما. فهيتشكوك دائماً ما يعتمد على عقدة القصة وحبكتها في تسيير الأحداث، ولذا فمن العدل أن نذكر أن كتاب أفلامه يشاركونه في العظمة التي اكتسبها، فالغموض والترقب والانتظار هي موجودة باستمرار في أفلامه، ففي Vertigo يعتمد على الحبكة القصصية المعقدة التي تنتهي بمفاجأة من العيار الثقيل، وفي Psycho يعتمد على التوتر الناتج عن الشعور بالرعب والترقب، وفي Rear Window (أفضل أفلامه على الإطلاق) يعتمد بمشاركة كاتب السيناريو البارع جون هايز على الانتظار والمراقبة المصحوبة بما يشبه الهوس، فالانتظار يستوجب المراقبة، والمراقبة تفرض متابعة أدق التفاصيل، وأدق التفاصيل ستكشف عن الغموض المعقد، ولذا فإن الفيلم أشبه ما يكون بلعبة يمارسها المخرج بعبقرية على المشاهد، ويضعه تماما في مكان البطل، ويضرب بخبرة وذكاء على كل الأوتار المناسبة في أوقاتها المحددة. بينما نجد عند المخرج الفريد والغريب ديفيد كروننبرغ منهجاً مختلفاً في مفهوم الإثارة، فهو لا يُمهِّد لها، بل يجعل المَـشاهد تسير ببطء، وتراخٍ، قد تحتوي على نوع من التوتر، ولكنها تظل هادئة إلى أن يفاجئنا في مشهد معين بتصاعد الإثارة إلى درجة كبيرة، وصادمة، وغالباً ما تحتوي على شيء من العنف، وهو منهج نشاهده جليا في كثير من أعماله. أما بالنسبة لأفلام الإثارة الحركية، فإنها تعتمد بشكل كلي على الصورة كمغذٍّ أساسي لتفعيل هذه الإثارة: الوضعيات الخطيرة التي تجبرنا على الانتظار بقلق، الخلاص من الحالات الصعبة في أعقد المواقف، مكافحة البطل للمنافسين من حوله.. كلها أوضاع تعتمد على الصورة وكيفية استخدامها في خدمة تفعيل الإحساس بالإثارة والتشويق، ولذا فإن أبرع المخرجين من يستطيع تحقيق هذه المعادلة دون الزيادة في كثافة الصورة، فالخطأ الذي يقع فيه المخرجون الذين يعتمدون على الحركة والمؤثرات هو تكثيف الصورة لدرجة أنها تصبح عنصر الجذب الوحيد في المشهد، بينما يفترض أن يكون هذا العنصر هو الإثارة التي تقدمها.. ولذا يذهب كثير من المشاهدين لهذه الأفلام لمشاهدة المؤثرات، والانفجارات، والمطاردات، وليس ليشعروا بالإثارة التي تفرضها عليهم، لأنها أصبحت هامشية، وغير مؤثرة. هنالك أيضا نوعية الأفلام التي تسير بالعكس، من الحاضر إلى الماضي، وهو منهج يفرض نوعاً فريداً من الإثارة، يعتمد على الشرح وليس على التوقع، فأغلب القصص تعتمد في إثارتها كما يقرر الروائي والناقد ديفيد لودج على سؤالين: الأول يتعلق بالسببية (من فعل هذا ؟) والثاني بالزمن (ما الذي سيحدث أو ماذا حدث؟).. وكلها تكون مرتبطة بالمستقبل الذي سيكشف عنهما، ولكن في الأفلام التي تسير بطريقة معكوسة يصبح التوقع أمراً منتفياً لأننا نعلم ما الذي حدث، ولكننا نريد أن نعرف لماذا.. كما نرى في رائعة كريستوفر نولان Memento، حيث إن كل مشهد جديد يشرح غموض ما حدث قبله، إلى أن نصل إلى نهاية مفاجئة، ونتمكَّن حينها من تركيب كل قطع القصة مع بعضها لنتعرف على تفاصيل ما حدث.. بقي أن أشير أخيراً إلى منهج فريد للغاية، وهو منهج «الإثارة التأملية» ولكنني مضطر لتأجيل ذلك حتى المقال المقبل، برفقة العبقري جان بيير ميلفيل والأخوين كوين..