«بيلهالم 123».. الزمن الفني هو الزمن الواقعي!!

طارق الشناوي

TT

الواقع دائما هو أحد أهم مصادر استلهام الفن.. وكثيرا ما نهلت السينما من أحداث واقعية وأعادت تقليمها ووضعها في إطار فني يمتلك الجاذبية والسحر.. الواقع إذا لم يحتويه هذا الإطار لا يتجاوز كونه مجرد حالة نعيشها.. عين الفنان تلتقط وتبحث وتضيف وتدهش وتنقل تلك الدهشة إلى الجمهور وهكذا من الممكن أن أرى فيلم «The Taking of Pelhalm 123» الذي يعرض تجاريا في عديد من الدولة العربية باسم تجاري «اختطاف».. إنه أحد أفلام التشويق للمخرج «توني سكوت» ويتناول واقعة حقيقية حدثت في منتصف السبعينات من القرن الماضي عندما خرج شقي من السجن بعد أن تعرف على مجموعة أخرى بينهم عامل سابق في إدارة القطارات بنيويورك يعرف الكثير عن مسار تلك القطارات والطرق الجانبية التي من الممكن اختراقها سيرا على الأقدام بعيدا عن قضبان القطارات.. الخطة التي وضعها جون ترافولتا الذي يؤدي دور هذا الشقي تتلخص في الاستحواذ على عربة قطار والمطالبة بفدية تصل إلى 10 ملايين دولار وبعد ذلك الانطلاق بعيدا عن مراقبة الأجهزة الأمنية!! الفيلم يضع إطارا زمنيا محددا حيث يصبح الزمن الفني هو نفسه الزمن الواقعي للحدث.. المهلة التي حددها جون ترافولتا للجهات المختصة هي 60 دقيقة حيث يبدأ رحلة الاختطاف الساعة الثانية و13 دقيقة!! الأقدار وضعت دينزل واشنطن في مواجهة ترافولتا.. إنه مواطن أميركي أسود موظف صغير كما وصف نفسه لترافولتا وكما هو في حقيقة الأمر.. لكنه فجأة صار مسؤولا عن حياة 19 راكبا في عربة القطار وعليه أن ينفذ تعليمات ترافولتا وليس أمامه حل آخر وهكذا التقط السيناريو هذا الحوار الساخر بينه وبين ترافولتا وهو يؤكد له أنه لا يملك شيئا ولا يستطيع حتى أن يتصل بموظف فما بالك وأن المطلوب أن يتصل بمحافظ نيويورك من أجل سرعة إعداد حقائب بها 10 ملايين دولار يتسلمها قبل أن يطلق سراح الرهائن.. يؤكد ترافولتا أن الجريمة ليس بها تطرف ديني أو عرقي وهي معلومة على المستوى الدرامي لها أهميتها في هذا التوقيت حيث إن العرب والمسلمين دائما في السينما العالمية هم أحد مصادر الإرهاب.. نشعر بشيء من الحميمية بين ترافولتا وواشنطن في المكالمة التليفونية وكانت تلك الحميمية مطلوبة حيث يستند إليها السيناريو في تتابع الحدث.. ترافولتا يقدم تفاصيل غير مباشرة توحي أننا بصدد تنفيذ لحكم إلهي وأنه صار هو اليد التي تنفذ ذلك عندما يقول له إنه لن يقتل الرهائن ولكن يعيدهم مرة أخرى إلى الله وهذا ما يجعل دينزل واشنطن يشعر أنه كاثوليكي متدين رغم إقدامه على قتل الأبرياء تنفيذا لخطته التي أعلنها وهي أن كل دقيقة تأخير تساوي إزهاق نفس ولكن ونحن في بدايات التفاوض يقتل سائق القطار لأنه لم يتلق ردا فوريا على أسئلته وهكذا تعلم دينزل واشنطن الدرس العملي وهو أنه لا يملك سوى أن ينفذ؟! تحاول القيادات في الإدارة المركزية للقطارات تغيير الموظف الصغير دينزل واشنطن بالاستعانة بمسؤول التحقيقات لكي يفاوض هو ترافولتا ولكن لحظات تردد حرص المخرج على أن يتضمنها الشريط السينمائي نراها في لقطة مكبرة على وجه دينزل واشنطن الذي لا يملك بالطبع سوى الانصياع والتنفيذ للأمر الصادر من القيادة لكنه في الوقت نفسه لديه إحساس بالمسؤولية الأدبية تجاه هؤلاء الأبرياء.. تعيده الأقدار مرة أخرى إلى موقعه عندما يرفض ترافولتا الانصياع لهذا التغيير ويصر على أن يعود واشنطن إلى مقعد التفاوض وبالطبع يذعنون لأوامره فليس أمامهم حل آخر.. يقدم السيناريو معلومة هامة لنا كمشاهدين وهي أن واشنطن لديه في ملفه جريمة غير مؤكدة اتهام بتقاضي رشوة لشراء صفقة قطارات.. وبالطبع فإن الاتهام يطال واشنطن بمجرد أن يصر ترافولتا على أن يواصل هو التفاوض يعتقدون أنه ربما متورط في جريمة اختطاف القطار وأنه عضو سري في تلك العصابة ولكننا نعرف أنه بريء تماما.. لكننا نكتشف أنه ربما يكون قد تقاضى رشوة مقدارها 36 ألف دولار ولكنه أبدا لا يمكن أن يقتل أبرياء أو يرضى بترويعهم.. واشنطن هو عنوان صارخ على التضحية ولهذا في لحظة فارقة يهدد ترافولتا باغتيال ضحية أخرى، شاب في العشرينات من عمره من بين ضحاياه ويضع شرطا واحدا لتراجعه عن فعل ذلك وهو أن يذكر واشنطن الحقيقة وهكذا يعترف على نفسه مؤكدا أنه بالفعل حصل على رشوة يسأله كيف أنفقتها يكتشف أنه كان مضطرا لكي يدفع ثمن مصاريف أبنائه في المدارس والتأمين الصحي.. وهكذا من الممكن أن تجد ملمحا آخر في هذا الحوار الدرامي الكاشف في الوقت نفسه لملامح واشنطن الذي يضحي بسمعته من أجل إنقاذ إنسان لا تربطه به أي صلة؟! إنه الإحساس بالمسؤولية الجماعية وهذا هو دور القائد دائما.. أن يضحي بنفسه لإنقاذ الآخرين.. وفي الوقت نفسه يحمل الفيلم إدانة صارخة للدولة عندما تدفع مواطنا شريفا للحصول على رشوة من أجل أن يسدد مصاريف أبنائه.. يسأله ترافولتا هل علمت زوجتك بذلك؟ جاءت الإجابة نعم تعلم لكنها لم توافق.. فهو يؤكد أن ما فعله جريمة مهما تدثرت برداء اجتماعي!! الرهائن بالنسبة لنا يظلون عناوين أكثر من كونهم حالات نكشف تفاصيلها ونتعرف عليها.. الشاب العاشق الذي لديه «لاب توب» يسعى للاتصال بحبيبته التي تصر في عز الأزمة التي يعيشها أن تستمع إلى كلمة أحبك وهي تتابع مع يجري داخل عربة القطار.. الأسمر الذي بين الرهائن وجد نفسه مطلوبا منه أن يواجه هؤلاء الخاطفين لمجرد أنه أسمر وذلك عندما طلبت منه إحدى الرهائن أن يضع خطة للإنقاذ، يقول لها هل لأنني أسمر؟ تقول له بل لأنك طيار فلقد لمحت في إصبعه خاتما كان يملك زوجها الراحل مثله يدل على التحاقه بالطيران.. ولكن هذا الشاب الأسمر يلقى حتفه بعد أن تفشل خطته في إنقاذ الرهائن.. أيضا الطفل الذي نراه يمارس حياته بتلقائية عكس الكبار.. الفيلم يؤكد أن الحياة والموت قدر ولهذا فإن الشرطة المنتشرة حول القطار يطلق أحد رجالها طلقة دون أن يقصد تقتل أحد أفراد عصابة المختطفين.. الشرطي لم يكن يقصد ذلك ولكن يده كانت على الزناد وفجأة يدخل من تحت البنطلون فأر يصيبه بالذعر فتنفلت منه رصاصة تزيد من توتر ترافولتا.. هذه الأقدار نفسها هي التي أدت إلى انقلاب إحدى العربات التي تحمل النقود وهي في طريقها إلى ترافولتا وكادت أن تؤدي إلى تهوره وإطلاق النيران على الرهائن ولتضع أيضا على المستوى الدرامي لحظات تزيد من لهاث الجمهور وخوفه وشفقته.. اللحظة الأخيرة أيضا صنعها القدر عندما أصر ترافولتا على أن من يسلمه حقائب النقود هو واشنطن وهكذا يجد نفسه في نهاية الأمر في مواجهة حتمية مع ترافولتا فلقد بدأ الخطة في الهروب حيث يترك القطار يجري بسرعة بعد أن فتحت أمامه كل الإشارات بينما هو يغادره مستخدما السراديب التي يعرفها ليخرج إلى الشارع في تلك اللحظة يبدأ واشنطن في تتبعه حتى يلقي القبض عليه ويطلب ترافولتا من واشنطن أن يقتله مؤكدا أنه سوف يذهب إلى الله وأن هذه هي أمنيته وبالفعل لا يجد واشنطن أمامه سوى أن يطلق عليه الرصاص ليرديه قتيلا ونرى محافظ نيويورك يقول له إنني دائما ألقي كلماتي للناس وأقول أخي وإخوتي ولا أدري من هم.. هذه المرة عندما ألقي كلمتي فأنا أعلم بالطبع إلى من تتوجه.. فأنت بالفعل بطل.. ويطلب منه أن يركب معه العربة لكنه يقول له سوف أعود إلى بيتي عن طريق المترو!! كان على السيناريو أن يمنح الجمهور معلومات مكثفة ولكنها موحية عن الرهائن ولكن هذا لم يحدث إلا قليلا، ورغم ذلك فإن أكبر تحديات الفيلم هي في قيد الزمن الذي أحاله المخرج إلى تفاصيل غنية شديدة الإبداع وليس مجرد إطار خارجي لتشويق المشاهد وزيادة لحظات التوتر ولكنه يكتشف من خلاله جوانب النفس البشرية لنرى أمامنا فيلما قيده الزمن ولكنه أحال القيد إلى رحابة إبداعية. [email protected]