من قداس الأحزان إلى الصوت المثقف

فوزي كريم

TT

إن Requiem فن في التأليف الموسيقي يتوسل مناسبة قداس الموتى ذي الطبيعة الدينية في مبدئه من أجل التعبير العاطفي والفكري. واستقلال الفن الموسيقي عن مناسبته هو مرحلة تحرر الفنان من دائرة ضيقة إلى رحاب أوسع. وفن القداس الجنائزي يقدم نموذجاً أمثل لذلك. فنحن نبدأ دائماً من قداس موتسارت الشهير غير المكتمل: عذوبة الماء واحتدامه في وجه عائق الموت. وكذلك قداس بيرليوز الفرنسي وبرافز الالماني، وقداس صنوه التشيكي دفور جاك، ثم قداس الفرنسي فوريه متناهي العذوبة، الذي يشف كأغنية، أو كأوراق ربيع بليلة، ثم قداس الايطالي فيردي المعبأ بكل النزعة البطولية في أوبراه.

ولكن ثمة قداس جنائزي سبق موتسارت بقليل ظل منسياً إلى حين، حتى أتيح له أن يرى النور على يد قائد الأوركسترا لويس ديفون عام 1986. هذا القداس يعود إلى موسيقي بلجيكي الأصل يدعى جون ـ فرانسوا غوسيك (1734 ـ 1829)، من جيل هايدن. نشر قبل هايدن أعماله السيمفونية، ووضع قداسه الجنائزي (1760) بعد أن سافر إلى باريس واستقر بها (1750) وأسس معهدها الموسيقي. وكان عميق التأثير على بيرليوز في ما بعد.

عمله هذا، الذي يمتد لساعة وربع الساعة، كان واضح الحضور في الحياة الموسيقية إبان حياة المؤلف، ثم انزوى في ركن النسيان بعد وفاته. ولكن قبل النسيان كان عميق التأثير على الصغير موتسارت في سنة زيارته لباريس (1763 ـ 1764)، ويمكن تلمس ذلك في الآثار التي خلفها على قداس الأخير الأكثر شهرة ولقد ذكره موتسارت في إحدى رسائله لأبيه: «غوسيك هو صديقي المقرب».

دار النشر Erata أصدرت هذا القداس في مسلسلتها apex رخيصة الثمن، مع عدد كبير من الأعمال الأخرى تحت قيادة لويس ديفوس، الذي يروي كيف اكتشف العمل قبل أسابيع من تسجيله، في معرض بلجيكا حول «بناة التاريخ الموسيقي»، حيث عثر على مخطوطة غوسيك للقداس في نسخة معدلة بخط يده.

القداس الجنائزي هذا في خمسة فصول موزعة على خمسة وعشرين لحناً منفصلاً، يسمى «رقماً» في المصطلح الموسيقي. وهذه نزعة في التأليف كانت شائعة في المراحل جميعها، حتى تلاشت على يد فاغنر. والمرحلة الحديثة، تهدف إلى توزيع العمل (أوبرا أو أي عمل يعتمد الغناء) على عدد الألحان التي فيه. وقداس غوسيك بهذا المعنى يتوزع على خمسة وعشرين رقماً تؤديها الآلات الأوركسترالية في المفتتح، ثم الكورس حيناً، والصوت المنفرد مع الكورس حيناً آخر، أو المنفرد وحده مع الأوركسترا. والأصوات المشتركة في هذا العمل هي: السوبرانو والتينور والباص: شيء يشبه موجات البحر التي تتجه لا إلى شاطئ، بل إلى مجهول، إلى شيء سماوي يملأ الأوصال بالنشوة والغياب، أو بالتوجس والذعر. تماماً كما هو الحال مع قداس موتسارت الشهير. والروع هاجس يدخل في صلب مضامين القداس الجنائزي، لأن فيه، إلى جانب الشجى العميق بفعل الفقدان، تذكيراً بيوم الدينونة، حيث يبعث الموتى للحساب. في قداس غوسيك وفي الفصل الذي يعنى بهذا المشهد، نقع على لحن مؤثر يصفه غوسيك نفسه بهذه الكلمات: «يأخذ الروع أحدنا بفعل التأثير الذي تخلفه ثلاث آلات ترومبون موحدة مع ثلاث آلات كلارينيت، أربع ترومبيت، أربعة أبواق، ثماني آلات باسون مخفية بعيداً عن موقع العزف، في حين تواصل الأوركسترا تعبيرها عن الخوف بأصوات الوتريات المكتومة.

ضمن سلسلة apex وقعت على مجموعة أغان لموسيقي الماني يساري النزعة من مجموعة بيرتولد بريشت يدعى هانز ايسلر (1898 ـ 1962)، والذي جذبني إلى هذا الاصدار صوت الباريتون الالماني الأشهر ديتريك فيشر ـ ديسكاو، فهو، طوال عقود النصف الثاني من القرن العشرين، سيد المغنيين بدون منازع، وخاصة في أداء فن الأغنية الجدية Lied الألمانية الأصل. لقد قدم الجزء الأسمى والأعظم من هذا الفن لمحبي الموسيقى، من الأغنيات الكاملة لشوبرت ـ شومان ـ وولف ـ شتراوس، حتى المتأخرين من أمثال ايسلر. انه رمز حي لثقافة الصوت وثقافة الأداء، وإليه يعود الفضل في إرساء القاعدة الصلبة لهذا الفن في القرن العشرين.

كل أغاني هذا الاصدار، وتبلغ 32 أغنية، لحنها ايسلر في منفاه الأميركي، بعد أن أجبر على ترك بلده المانيا، هو وبريشت، من قبل السلطة النازية في منتصف الثلاثينات. هذه الأغاني تجمع العناصر السياسية والجمالية ومادة السيرة الذاتية في وحدة عضوية، تحاول جاهدة حفر مجرى جديد لهذا الفن الكلاسيكي.

كان ايسلر ابناً للفيلسوف الفيناوي رودولف ايسلر. بدأ التأليف الموسيقي وهو في العاشرة. درس في المعهد الموسيقي، وخضع لمؤثرات شوينبيرغ وفيبرن الطليعية في برلين، التي انتقل اليها عام 1925، وتطورت لديه قناعات ماركسية متينة، وانتمى على الأثر إلى الحزب الشيوعي عام 1926، واصبحت موسيقاه ذات النبرة الحماسية على لسان الشبيبة اليسارية. لاحقته النازية حين تسلمت السلطة عام 1933. عاش بين براغ، لندن وباريس، إلى أن غادر مع بريشت إلى أميركا، وهناك بدأ ينتخب قصائد منه، ويحورها على هوى ألحانه، من دون اعتراض من بريشت.

إلى جانب بربشت، هناك قصائد لهولدرلن وهاينه وشكسبير، وهي جميعها تصب في مضامين انسانية، وطبيعة الألحان لا تخلو من حدة ودعابة وسخرية والتواء لحني تعكس ما خلفه ذكاء بريشت في تلك السنوات على الذائقة وعلى الوعي من نبرة انسانية جارحة، ولا تخلو من خطوط حشنة وسوداء:

في الأيام السود أيظل غناء أيضاً؟

نعم، سيظل غناء أيضاً حول الأيام السود Gossec: Requicm (apex) Eisler: Lieder (apex)