محمد حسن الجندي.. ملك الشاشة المغربية

طلب منه الملك الحسن الثاني أن يسجل «ألف ليلة وليلة» بصوته.. ووصفه مصطفى العقاد بـ«الوحش»

الفنان المغربي محمد حسن الجندي في مشهد من المسلسل السوري «آخر الفرسان» للمخرج نجدت إسماعيل أنزور («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر الفنان محمد حسن الجندي من أبرز الممثلين المغاربة الذين فرضوا مكانتهم في كل الأعمال الفنية التي شاركوا فيها، سواء على المستوى الوطني أو العربي. وبعيدا عن خصوصيات النجومية والشهرة وقوة الصوت وطلاقة اللسان والتمكن من اللغة العربية، خلال أدائه السينمائي وتشخيصه لأهم المسلسلات الإذاعية المغربية، ورغم كل الصيت الكبير الذي توفر له في المغرب وفي العالم العربي، يتمسك الجندي بتواضعه، هو الذي يردد أن «الشهرة قاتلة للأغبياء».

يسترجع الجندي، في لقاء مع «الشرق الأوسط» مراحل مسيرته الفنية، فيتذكر كيف أن المخرج العربي الراحل مصطفى العقاد كان يناديه «يا وحش» وأن المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور كان يناديه «يا ملك» ومن بين الممثلين، يتذكر كيف أن الممثل الراحل عبد الله غيث خاطبه، قبل الشروع في تصوير مشهد جمعهما في فيلم «الرسالة»، قائلا «هيا يا جندي.. سنخوض مباراة مع الإنجليز»، حيث كان يجري تصوير النسختين العربية والإنجليزية، من الفيلم، في الوقت نفسه.

ومن بين الممثلات العربيات، اللواتي اشتغل معهن، يذكر منى واصف ونضال الأشقر، ويقول «منى واصف، فنانة كبيرة وصديقة رائعة. اشتغلت معها في فيلم (الرسالة) كما اشتغلنا في (الخنساء) لمدة ثلاثة أشهر. دوري في (الخنساء)، هيأ لي فرصة المشاركة في (شجرة الدر)، إلى جانب الفنانة الكبيرة نضال الأشقر، التي كانت تبحث عن فنان يشاركها بطولة هذا العمل».

وبعد نصف قرن من التميز الإبداعي، لا يزال محمد حسن الجندي مصرا على مواصلة مسيرته الفنية الوطنية، وكان آخر الأعمال العربية، التي شارك فيها، ملحمة «أحلام الفجر» إلى جانب محمد عبده وصباح فخري وفنانين عرب آخرين، وذلك بمناسبة مهرجان «الجنادرية» في المملكة العربية السعودية.

ينحدر الجندي من مراكش، مدينة البهجة والفرجة، التي يقول عنها «إنها كانت منطلق العديد من المواهب في الموسيقى والمسرح والتمثيل» وإنها «المدينة التي أراد لها الله أن تكون منبرا تصدح من فوقه المواهب من مختلف فروع الفكر والأدب».

رسم الجندي بداياته الفنية، انطلاقا من مسرح الهواة بمراكش، في فرقة «الوحدة» قبل أن يؤسس فرقة «الأمل» عام 1957، وهي الفرقة التي حاول أن يجمع فيها أفضل الممثلين المراكشيين، الذين سيصبحون، لاحقا، من أعمدة المسرح والتمثيل في المغرب، أمثال عبد العزيز موهوب وأحمد العماري وعبد الجبار بلوزير ومحمد بلقاس وعبد الله العمراني، قبل أن يلتحق في عام 1958 بالإذاعة الوطنية بالرباط.

لم يفرط الجندي في ولعه بالتمثيل والمسرح، حيث سيلتحق، وهو في الرباط، بفرقة للهواة ضمت ممثلين صاروا هم، أيضا، من أعمدة التمثيل والمسرح في المغرب، أمثال محمد الدغمي والمحجوب الراجي، حيث سيعمل على اقتباس مسرحيات «خالتي راضية» و«الحقيقة ماتت» و«الوحش».

سيقدم الجندي، عبر أمواج الإذاعة الوطنية، مسلسل «العنترية»، الشيء الذي بدا كما لو أنه ينقل للمستمعين أجواء الساحة المراكشية، عبر الأثير، ولذلك يقول «أسهمت في إثارة انتباه العموم إلى أهمية ما كان يقدم في ساحة جامع الفنا. حاولت أن أنقل التراث الشفوي وأن ألفت الانتباه إلى أهميته، رغم الصعوبات والانتقادات التي تعرضت لها. نجحت الفكرة وصار الناس يوقفون أشغالهم ليتابعوا أحداث كل سلسلة تمت إذاعتها. كان المنتقدون يرون في هذه الأعمال نوعا من التخدير، والحمد لله أنه كان هناك من ينصفني، أمثال الزعيم السياسي المرحوم علال الفاسي، الذي كان يدافع عني وعن أعمالي، ويقول: هذا تراث يجب أن نعتز به، وأن نحرك الذاكرة ولا نقطع الصلة مع ثقافتنا، وكذلك كان الشأن مع الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان أول المهنئين والمشجعين. وأذكر أنه عندما سمع (العنترية)، التي أذيعت في شهر رمضان، أوقف المهنئين، في صباح العيد، ليخاطب وزير الإعلام آنذاك أحمد السنوسي، في صيغة التعجب، بقوله (ماذا جرى لكم حتى فتحتم الأبواب أمام المواهب!؟). ولم يكن الوزير يعرف عمّ يتكلم الراحل الحسن الثاني، ولذلك سأل مدير الإذاعة، بوبكر بنونة، في الموضوع، الذي أجابه، بقوله (إنه يتكلم عن الشخص الذي أوقفتموه عن العمل).

يتضمن «توقيف» الجندي عن العمل شيئا من الطرافة، وتتلخص الحكاية في رأي نشر في إحدى الصحف، بعد أن سئل «كيف تسير السينما في المغرب؟»، فأجاب، «إنها تسير عرجاء». ومن سوء حظ الجندي أنه لم يكن يعرف أن «الوزير أعرج» ورأت الإدارة أنه كان يسخر من الوزير، الشيء الذي أدى إلى إيقافه عن العمل، قبل أن يطلب منه، بعد سؤال الراحل الحسن الثاني، أن يعود ليشتغل على «الأزلية» بأمر من الملك، الذي سيطلب منه لاحقا أن يعد له تسجيلا خاصا لحكايات «ألف ليلة وليلة» بصوته.

بعد شهرة الإذاعة وتحول صوته إلى قيمة فنية وطنية، سيدعى الجندي للاشتغال في فيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد، بعد أن كان دعي، في وقت سابق، للمشاركة في فيلم «لورنس العرب»، ورفض، استياء من الأدوار الثانوية التي اقترحت عليه وعلى الفنانين المغاربة.

ومن بين كل الأفلام والأعمال، التي شارك فيها، يحتفظ الجندي لفيلم «الرسالة» بمكانة خاصة، ويقول «ليس سهلا أن يحظى الإنسان بالمشاركة في عمل سينمائي عالمي، شارك في نسختيه ممثلون من 32 جنسية، وتوفرت للفريق المشرف عليه الاحترافية اللازمة لإنجازه».

سيقترح على الجندي، في فيلم «الرسالة»، تشخيص دور «عتبة». وخلال التدريبات، سيقفز مدير التصوير ليهمس في أذن العقاد، بكلام، فهم منه، بعد ذلك، أنه كان معنيا به، بعد أن اقترح عليه أداء دور «أبي الحكم»، عوض دور «عتبة».

يحتفظ الجندي للعقاد باعتراف وتقدير كبيرين، ويتذكر كيف أن تصوير فيلم «الرسالة» رافقه تشويش جعل التصوير يتوقف لأكثر من سبعة أشهر، وهو التوقف الذي يقول عنه إنه كان نعمة، بالنسبة إليه: «كنت خلال فترة التصوير أشعر أني في مدرسة أو معهد فني، كان يعوضني عن كل ما حرمت منه في بداياتي الفنية، ولذلك فكلما طالت مدة التصوير استفدت وتعلمت أكثر».

بعد التألق في دور «أبي الحكم»، في النسخة العربية من «الرسالة»، ودور «كسرى» في النسخة الإنجليزية، سيكسب الجندي شهرة عربية ستجعله يشارك في أعمال عربية مهمة، من قبيل فيلم «الصخر عندما ينطق»، مع المخرج أنطوان ريمي، و«القادسية»، مع المخرج صلاح أبي سيف، فضلا عن أعمال فنية أخرى، من قبيل «الخنساء»، حيث جسد دور «صخر»، إلى جانب منى واصف، و«شجرة الدر»، حيث جسد دور «الملك الصالح»، أمام نضال الأشقر. أما في المغرب، فسيتابعه الجمهور في فيلم «بامو» لإدريس المريني، و«ظل الفرعون» و«طبول الحرب» لسهيل بن بركة.

واليوم، حين يعيد الجندي مشاهدة فيلم «الرسالة»، يشعر بالغبطة والأسى: «الغبطة لأني حظيت بشرف المشاركة في هذا العمل الرائع، والأسى لعدم استمرار مسيرة هذا المخرج العبقري، وعدم تواصل ونجاح مخططه. ولم يكن خافيا أن العقاد كان يشتغل على أفكار وتصورات فنية كثيرة، من حجم «الرسالة» و«عمر المختار»، ومن بين هذه التصورات كان هناك تفكير لإخراج معركة «أنوال» الشهيرة، التي هزم فيها المقاومون المغاربة، بقيادة المجاهد عبد الكريم الخطابي، جيش إسبانيا في عشرينات القرن الماضي. وأنا أرى أن فشل مشروع العقاد كان فشلا للساحة الفنية، لأنه مثّل الأمل الوحيد أمام السينما العربية للخروج إلى العالمية».

يشدد الجندي على أن «العودة المتكررة إلى التاريخ العربي تبقى مهمة ما دامت تحقق الفرجة. الحركة متوفرة في التاريخ، على عكس الحاضر، الذي يكرر نفسه، حيث تتشابه المآسي والهموم والمشكلات بين مناطق وبلدان العالم، من البطالة إلى الغلاء، وغيرها. أما التاريخ فيوفر الاختلاف والتميز، فتاريخ المغرب يختلف عن تاريخ المشرق العربي، وأمجاد الأمة العربية والإسلامية متوفرة في الذاكرة بشكل لافت ولا تتطلب إلا العودة إليها».

يعشق الجندي اللغة العربية، ويشدد على أنها «لغتنا»، ويحب أن يردد أنه متعلق ببلده وأصالته، حتى النخاع، وحين تسأله عن علاقته بالممارسة الفنية، يجيبك، قائلا «أجد نفسي حيثما كان هناك فن نبيل يحترم الذوق ومشاعر الناس. أنا لست من أولئك الذين يسفهون العمل الفني، ويغرقون الإبداع في الإباحيات». يرى الجندي أنه يبقى من الصعب تصور الحياة ببدايات أخرى، ما دام «الإنسان يعيش بقدره ومصيره، ومهما يكن، فعلى الإنسان أن يعتز بالمراحل التي قطعها من حياته، لأن كل محطة لها حكاية ومتعة ومعاناة ومكابدة وأفراح وأحزان، وأحمد الله أن المسيرة تتواصل في تصاعد، رغم أن الإنتاج قل في السنوات الأخيرة، غير أني لم أكن، في يوم من الأيام، غزير الإنتاج، حيث كنت أنتقي أعمالي، وأقضي لحظات للتأمل بين عمل وآخر، ومع ذلك، كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لأن نحقق لهذا الوطن العزيز عملا كبيرا يستحقه».