«المقاطعة التاسعة».. نقد مرير يتخفى تحت إطار الإثارة

يحاكي حكايات أفلام الخيال العلمي

لقطة من فيلم «المقاطعة التاسعة»
TT

تبدأ أحداث فيلم «المقاطعة التاسعة» قبل ما يقارب ثلاثة عقود في جنوب إفريقيا، بعدما فقدت السفينة الضخمة السيطرة فوق ساحل جوهانسبرغ، وتوقفت بلا حراك فوق المدينة مثل سحابة رعدية معدنية ضخمة.

يمر على المقاطعة التاسعة ـ معسكر اللاجئين القابع خارج المدينة الذي تم بناؤه من أجل الكتلة السكانية الضخمة من الكائنات الغريبة التي خرجت من السفينة الجانحة ـ العديد من الأيام العصيبة. والمقاطعة التاسعة هي واحدة من المدن المكوَّنة من أكواخ «منفصلة ومتساوية» تفوح منها رائحة القمامة وعدم الرضا المتزايد بين كائنات الـ«برونز»، وهي كائنات لزجة مثل كل كائنات ذلك النوع من المخلوقات التي تبدو مثل نوع من الصراصير أو الكركند الطويلة ذات القدمين.

وفيلم «المقاطعة التاسعة» هو فيلم من أفلام الخيال العلمي الذكية، يحتوى كذلك على نقد مرير وساخر يتخفى تحت الإطار الخارجي لأفلام الإثارة والحركة الذي يعج بالكائنات الغريبة والصراعات بين تلك الأنواع من المخلوقات.

كما أنه عاصف، فالبطالة تتفشى في المقاطعة التاسعة، ولا توجد رعاية صحية ـ إلا إذا كنت تريد أن تحصى هذه التجارب العلمية السرية ـ كما ترتفع نسبة ارتكاب الجرائم التي تغذيها مافيا نيجيرية متخصصة في الأسلحة والذخيرة. ويقضي البرونز أيامهم يتشاجرون ويسكرون على أثر تناولهم طعام القطط الذي يكتشفون حبهم له ويتناولونه بشراهة، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره بضراوة. ولكن السكان المحليين قد أصابهم الضجر وبدأوا يطالبون بالاستقلال مرة أخرى في جنوب إفريقيا. ألا نتعلم أبدا؟

وفي الوقت نفسه، يريد البرونز أن يعودوا إلى ديارهم، فهم لا يريدون أن يتحدثوا بالإنجليزية، كما أن البشر لا يستطيعون فهم الأصوات التي يصدرونها، وبالتالي فهناك أزمة تواصل (على الرغم من أن الترجمة تفيد بعض الشيء).

يُفتتح الفيلم على محطة متربة، تحولت بعد ذلك إلى مقر قيادة «إم إن يو»، وهي المنظمة التي حصلت على الامتداح العالمي لقدرتها على التعامل مع مشكلة تلك الكائنات. ويبدأ الفيلم بلقطات تصور اقتراب إعادة توزيع سكان المقاطعة التاسعة، والحركة المتسارعة للكاميرات الإخبارية التي تدور بين الأشخاص لكي تغطي التفاصيل كافة.

ويستخدم المخرج نيل بلومكامب الذي شارك كذلك في كتابة السيناريو مع تيري تاتشيل سلسلة النشرة الإخبارية «24 ساعة» وبعض الخبراء منها، كخلفية لأحداث الفيلم المعقد في شكل يبدو مألوفا إلى حد كبير، ولكن هناك المزيد في ما يتعلق بفيلم «المقاطعة التاسعة».

تتمركز الشخصية الرئيسية في الفيلم حول أحد المديرين بالمنظمة المتحدة متعددة الجنسيات الذي يُدعى ويكاس فان دي ميرو، ويؤدي دوره شارلتو كوبلي الممثل المعروف في السينما والتليفزيون بجنوب إفريقيا. ولا يتمتع البطل في الفيلم بمظاهر البطل التقليدي، فهو يبدو مدرسا للعلوم في الخمسينيات، يرتدي قميصا أبيض اللون ذا أكمام قصيرة ونظارات لها إطارات سميكة (توحي أجواء الفيلم بشكل عام بفترة الخمسينيات).

وقد تم اختيار ويكاس لكي يشرف على مشروع إعادة التوطين لكونه رجلا عاديا يعتقد رؤساؤه أن أداءه على شاشة التليفزيون سيكون جيدا، حيث سيسجل البث الحي كل حركة يقوم بها.

ولكن مثل كل برامج الواقع التليفزيونية، لم تسر الأمور على ما يرام، حيث بدأت الأحداث السيئة عندما انتقل ويكاس إلى داخل المقاطعة، وتتوالى الأحداث إلى أن انتهى به الأمر إلى أن أصبح مطلوبا للعدالة.

ويزداد الوضع تعقيدا عندما يكتشف ويكاس أن الشركة التي قضى عمره بكامله يعمل بها قد تخلت عنه عندما كان في أمسّ الحاجة إليها.

ويحاول ويكاس في أجواء تتسم بالحركة أن يراوغ السلطات والفرق الطبية التي انتبهت فجأة إلى مظهره الغريب. ثم يجد من يعاونه بين كائنات البرونز خصوصا قائدا استراتيجيا يطلق عليه كريستوفر جونسون (جيسون كوب)، وابنه الصغير سي جي الذي يتسم بالمرح والذكاء، وقد تم إنشاء شخصيته بالكامل من خلال المؤثرات الخاصة.

وعلى الرغم من عائق اللغة يزداد فهم ويكاس للبرونز ويبدأ في رؤية الجانب الآخر لهذه المخلوقات التي تحركها حاجات تختلف عن حاجاته كإنسان.

ويحتوي الفيلم على مشاهد مختلفة من العنف، وفي كل لقطة لتلك المشاهد الدموية توجد كاميرا ترصد بدأب، فعندما تنطلق الرصاصات لتخترق اللحم أو لتحطم الأصداف تتحرك الكاميرا وتضعك في قلب الأحداث بحيث تشعر أن الأشلاء تتساقط من حولك.

لم أشاهد شيئا مثل ذلك من قبل، وإذا كانت السينما التي شاهدت فيها الفيلم توفر الكاميرات ثلاثية الأبعاد، لكنت بحثت عن ملجأ احتمي به.

ولا يستطيع أحد غير هذه الكائنات ارتداء الهياكل العظمية التي ينزلقون بداخلها ولا استخدام البنادق الآلية التي يستخدمونها لأن كل تلك المعدات تعمل من خلال الحمض النووي الخاص بهم.

وكان اتخاذ مصنّعي الفيلم لقرار أن تكون هذه المخلوقات شديدة الضخامة قرارا صائبا، فلا توجد أعين أثيرية يحدقون من خلالها، كما أنهم لا يرغبون في اللقاءات المباشرة، وعلى بطونهم سلسلة من الكلاّبات البشعة. وحتى الفكاهة تجدها في الفيلم، ولكن في إطار ساخر، فقد بث بلومكامب السخرية والمفارقات في فيلم «المقاطعة التاسعة» من خلال عدد ضخم من مشكلات الإنسان المعاصر مثل التمييز العرقي، والتفاوت الطبقي، والشركات الكبرى، ومحطات بث الأخبار، وعالم تليفزيون الواقع الممثَّل في برنامج «الأخ الأكبر».

ومن أكثر الأنماط التي يسخر منها بلومكامب التأثير المخدر الذي يلعبه البث اللانهائي للمعلومات والتحليلات على قنوات الأخبار الأرضية.

وبالانتقال بين الراويين (وجهة النظر العالمية التي يمثلها مراسلو الأخبار وويكاس الذي يكشف عن الحقيقة) خلق مصنّعو الفيلم قصة رعب أخرى. وعلى الرغم من أنها ليست فكرة جديدة تماما، فقد أثارت الطريقة التي نُفذت بها إحساسك بالرعب.

وبطريقة ما، يحاكي فيلم «المقاطعة التاسعة» حكايات أفلام الخيال العلمي المخيفة مثل فيلم «اليوم الذي توقفت فيه الأرض عن الدوران». وقد يرى آخرون تقاربا أكثر بينه وبين فيلم «أمة الغرباء»، ولكن ذلك الفيلم ما هو إلا لمحة من فيلم «المقاطعة التاسعة».

وعلى الرغم من أن السمات العامة للفيلم عالمية ومكررة فإن طفولة المخرج التي قضاها في جنوب إفريقيا أضافت إلى الفيلم المزيد الحساسية والعمق. ومما لا شك فيه أن الفيلم باهر بالنسبة إلى المخرج الذي يبلغ من العمر 29 عاما فقط.

وفي صيف طيب، يظهر دائما من العدم فيلم ليؤنسنا، وهذا صيف طيب وفيلم هذا الصيف هو «المقاطعة التاسعة».

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» _ خاص بـ «الشرق الأوسط»