موسيقى «الراي».. طريق العالمية من وهران إلى باريس

إيقاعاتها الراقصة تمتزج فيها النغمات الغربية بالشرقية

الشاب خالد («الشرق الاوسط»)
TT

من يسمع موسيقى «الراي» وإيقاعاتها الراقصة التي تمتزج فيها النغمات الغربية بالشرقية يحسبها وليدة العقود الأخيرة، بينما هي في الواقع أقدم ألوان الموسيقى الشعبية الجزائرية، حيث قطعت مشوارا طويلا منذ بداياتها الأولى وحتى وصولها للعالمية. عرفت هذه الموسيقى مولدها في أرياف الغرب الجزائري، تحديدا مدينة وهران وسيدي بلعباس، حيث كان النساء مند بدايات القرن الماضي يرددن بعيدا عن الرجال أغاني «الراي» في مناسبات خاصة كالأعراس، وحفلات الختان والخطوبة، علما بأن أصول هذه الموسيقى تعود للشعر الملحون الذي يستوحي كلماته من اللهجة العامية القريبة للعربية البدوية ويأخذ جل مواضيعه من المشكلات الاجتماعية وكانت قد ركزت اهتمامها إبان فترة الاستعمار الفرنسي على سرد مآسي السكان من صعوبة المعيشة وآفات اجتماعية محاولة بها توعية المستمع ثم تحولت مع مرور الوقت إلى القالب الموسيقي الأكثر تعبيرا عن مشاغل الشباب وطموحاتهم. السنوات الخمسون عرفت ذيوع صيت «الراي» في الجزائر أولا ثم في باقي بلدان المغرب العربي كفن جديد يمتاز بجرأة المواضيع وسرعة الإيقاع ومعه كان بزوغ نجم أوائل المغنين الشعبيين الذين ساهموا ـ على المستوى المحلي ـ في التعريف به، وكان أبرزهم الشيخة رميتي الملقبة بـ«جدة الراي» والتي بدأت الغناء في الأربعينات، وكانت أول من أصدر ألبوما خاصا بموسيقى الراي سنة 1954 برعاية شركة «باتي ماركوني» الفرنسية، وظلت تغني حتى 2006، حيث توفيت عن عمر يناهز السبعين عاما، بعد يومين فقط من إحيائها لحفل كبير مع الشاب خالد في قاعة برسي الفرنسية. ومن فناني تلك الفترة أيضا الشيخ بلمو الذي يلقب بـ«أبو الراي» وكانا الاثنان قد تمكنا من تطوير موسيقى «الراي» وإعطائها روحا جديدة عن طريق إدخال آلات كالساكسو فانفصلت نهائيا عن الملحون. وكان التلفزيون الجزائري والإذاعة قد مارسا طويلا رقابة صارمة على أغاني «الراي» بمنع بثها على الهواء بسبب تعرض بعضها لمواضيع أخلاقية محظورة كالجنس والعلاقات غير الشرعية، وكذا مشكلات الفقر والبطالة، فظلت حبيسة الملاهي الليلية والأشرطة حتى حقبة الثمانينات، حيث وصل «الراي» لأوج شهرته بعد ظهور جيل الشباب الجديد أمثال الشاب خالد، والشاب مامي، والشابة زهوانية، ممن أعطوا نفسا جديدا لموسيقى «الراي» فسموا بـ«الشباب» مقارنة بالشيوخ الذين يمثلون التيار التقليدي، كما أدخلوا على هذه الموسيقى آلات غربية كالقيثارة الإلكترونية والسنتيتزير والباتريه، حتى أن بعضهم تشبه بفرق غربية كفرقة «راينا راي» التي كانت إيقاعاتها تذكر بفرقة «داير ستريت» الأميركية. فكانت أغاني مثل «يا دي المرسم» و«وهران.. وهران» و«يالزينة ديري لاتاي»، التي تتحدث عن الحب والخيانة وحب الوطن تغنى في كل مكان. وقد بلغ تعلق الشباب الجزائري بـ«الراي» إلى درجة جعلت النظام يرضخ لطلباتهم ويعترف ضمنيا بمكانة هذا اللون الجديد عن طريق تنظيم أول مهرجان رسمي لأغنية «الراي» في مدينة وهران سنة 1985. ومع انتقال الشغف بهذه الموسيقى إلى أعداد المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا أصبحت مرسيليا التي لا تفصلها عن وهران سوى ضفة المتوسط موطنا ثانيا لـ«الراي»، تسجل فيها الألبومات وتنطلق من ملاهيها وقاعاتها نغمات «الراي» الراقصة ويقيم فيها فنانو «الراي» المغاربة عدة شهور في السنة.

اهتمام الساحة الفنية الفرنسية بهذه الموسيقى الآتية من الضفة الجنوبية للمتوسط بدأ في تلك الفترة بعد تنظيم منتجين فرنسيين هما ميشال ليفي وهو المنتج السابق للشاب مامي ومرتان ميسونيي وهو شخصية بارزة في مجال «الوورلد ميوزيك» أو موسيقى العالم لأول مهرجان لأغنية «الراي» في باريس بضاحية بوبينيي bobigny في 23 يناير (كانون الثاني) 1986، وكان الاثنان قد استمعا إلى بعض أغاني «الراي» في مرسيليا وأبديا إعجابهما بها. الحدث الذي غطته الصحافة الفرنسية بكثافة بفضل عمل دعائي كبير قدم للساحة الفنية الفرنسية لأول مرة خيرة مغني «الراي» آنذاك كالشاب خالد والشاب مامي والثنائي المعروف فضيلة وصحراوي، فرقة «راينا راي» والشيخة الرميتي، وكان بمثابة تكريس حقيقي للشرعية الثقافية لهذا الفن الغنائي لأول مرة خارج حدود المغرب العربي. النجاح الذي رافق تنظيم «مهرجان بوبينيي» جعل منتجين وعلى رأسهم ميشال ليفي يتبنى هذا النوع الموسيقي ويحاول جاهدا إدخاله سوق الاسطوانات الفرنسية مراهنا على نجاحه الساحق. يقول ميشال: «الأمور لم تكن بسيطة في البداية، فقد قابلتنا الإذاعات وشركات التسجيل بكثير من التردد خاصة وأن الراي لم يكن يدخل ضمن المعايير المعروفة والمعهودة عن الأغنية الشرقية، والأدهى هو أن الاهتمام بهذه الموسيقى كان فعليا بينما لم يكن بوسع الفرنسيين وجميع من يحبها سوى البحث عنها في بعض المحلات الصغيرة التي تقع في أحياء شعبية فقيرة بدل محلات الاسطوانات الكبيرة، فالطلب كان كبيرا على الرغم من غياب الاهتمام الإعلامي».

نجاحات فنية وتجارية كبيرة أعقبت هذه الفترة، بعد أن أبدت كبريات شركات التسجيل أمثال «يونيفرسال» و«بوليغرام» و«فرجين» و«بركلي» اهتمامها بإنتاج ألبومات «الراي» فخصّتها بتقنيات توزيع وتسجيل عالية المستوى وضّخت أموالا كثيرة في حملاتها الدعائية وكان الجو العام كله ملائما لظهور مثل هذه الأعمال، حيث كان رجال السياسة الفرنسيون آنذاك وعلى رأسهم وزير الثقافة السابق جاك لانغ يدعون إلى تشجيع التقارب الثقافي بين مختلف الأعراق وتشييد مشهد ثقافي فرنسي غني بتعدد أطيافه وألوانه، كما ساهمت موجة هجرة الفنانين الجزائريين إلى فرنسا إبان العشرية السوداء في تكريس مكانة باريس كعاصمة أولى لـ«الراي» بدل وهران. ويتذكر الباحث والخبير في موسيقى العالم بوزيان داودي صاحب كتاب «الراي» الصادر عن دار نشر «لابوش 2000»، تلك الفترة فيقول: «كان مقتل الشاب حسني الذي كان يلقب بمغني الحب أمام باب منزله من قبل متطرفين أصوليين بمثابة الصاعقة التي هزت مجتمع الفنانين، خاصة وأنه الوحيد الذي رفض الانتقال للخارج وكان ذالك سببا مباشرا أدى إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى فرنسا كان أولهم الشاب صحراوي وزوجته الشابة فضيلة اللذين سافرا إلى فرنسا في اليوم الذي تلا مقتل المغني الشاب». ومن الألبومات التي تركت بصمتها في تلك الفترة «لات مي راي» (1990) للشاب مامي، الذي كان أول من طرق باب العالمية بهذا الألبوم الذي سجل في لوس أنجليس وقوبل بنجاح، ثم الشاب خالد الذي حاز ألبومه «خالد» (1992) نجاحا ساحقا بفضل أغاني مثل «دي دي»، و«بختة»، و«وهران»، و«الشابة»، واحتل لأسابيع طويلة المرتبة الأولى في شباك مبيعات الاسطوانات الفرنسية وعدد من الدول الأوروبية والعربية ودول شرق آسيا وإيران والهند وأميركا اللاتينية، وكان متميزا في طريقة مزجه بين الإيقاعات الشرقية والغربية. ومن بعده ألبوم «عائشة» (1994) وألبوم «1 2 3 سولاي» (1998)، وأغنية «عبد القادر يا بوعلام» للثلاثي خالد ورشيد طه وشاب فوضيل، وقد بيعت منه أكثر من 300000 اسطوانة. العشرية الأخيرة تميزت أيضا بوصول أغنية «الراي» إلى المشرق العربي، رغم صعوبة فهم بعض المفردات التي تمزج بين اللهجة المغاربية والفرنسية وتعددت الأعمال المشتركة بين مغني «الراي» وآخرين من الشرق والغرب: الشاب فوضيل آمال حجازي، والشاب مامي سميرة سعيد، ومامي ستينغ، وخالد ميلان فرمر، ومامي زوكيرو، ومامي أليسا، وخالد كاميرون كارتيو.. إلخ. شخصيات كثيرة على الساحة الفنية ما زالت تراهن على نجاحات أخرى لموسيقى «الراي» خاصة بسبب قابليته الكبيرة لاستيعاب ألوان موسيقية غربية كـ«البوب»، و«الارنبي»، و«الروك»، و«الراب»، وظهور جيل جديد من المغنين المتحدر من الهجرة أمثال الشاب فوضيل، والشاب رضوان، ممن يغنون «الراي» بالفرنسية، مما سيسمح بتسويقه على صعيد أكبر. يقول المنتج الفرنسي ميشال ليفي: «ستشهد السنوات القادمة تطورا جديدا لموسيقى الراي التي ستصبح أكثر تنوعا وعصرنة، ستكون مختلفة تماما عما هي عليه الآن، ببساطة لأن النسيج الثقافي والاجتماعي المحيط بها مختلف عما كان عليه في السابق، فأجيال الهجرة أصبحت أكثر حضورا في الساحة الفنية وهي من ستدفع بهذه الموسيقى لأن تكون في الريادة مستقبلا».