من السينما النظيفة إلى السينما القبيحة!

وصفة الجنس لا تضمن نجاح الفيلم

TT

قبل 13 عاما عرفت السينما المصرية تعبيرا بات شائعا هو «السينما النظيفة»، حيث لا وجود للقبلات والعري والجنس والمايوه.. ولم تكن فقط النجمات هن اللائي يمنعن ذلك، بل إن النجوم كلهم كانوا يرفعون نفس الشعار «لا لأي مشاهد ساخنة».. أنجبت هذه الظاهرة ما يعرف بسينما المضحكين الجدد الذين تزعمهم محمد هنيدي، واستمرت المسيرة بعد أن واصل محمد سعد نفس الاتجاه.. كان المقصود بالنظافة أن الفيلم تصبح فيه المرأة في دور هامشي، وفي نفس الوقت يجب أن يكون الحضور الأنثوي آمنا، حتى في العلاقة بين الأزواج ممنوع تقديم قبلة خاطفة ولا حتى الشروع في قبلة خاطفة.. وأطلقت حنان ترك وقتها تعبير أن كل النجمات صرن «وردة في عروة جاكتة النجم» أي أنهن بلا دور درامي مؤثر ومن الممكن الاستغناء عنهن!! لم يخلُ الأمر بالطبع من بعض أفلام هنا وهناك تحاول أن تغير هذا النمط الشائع، مثل أفلام إيناس الدغيدي التي كانت ولا تزال ينظر لأفلامها على أنها أسوأ ما عرفته السينما المصرية، وكانت تجنح دائما إلى تقديم مشاهد جنسية فجة مثل «لحم رخيص»، و«مذكرات مراهقة»، و«الباحثات عن الحرية»، تتناول قضايا فكرية عميقة وجدلية ولكنها تحيلها إلى توليفة تجارية متواضعة فنيا، ولهذا صار حتى من يرفض تعبير «السينما النظيفة» لا يمكن أن يؤيد سينما إيناس الدغيدي التي تعتقد أن الجرأة فقط ينبغي أن يكون محورها هو الجنس.. الجمهور أيضا لم يكن يقبل على هذه الأفلام، وخاصمها شباك التذاكر مثلما لاقت انتقادا حادا من أغلب النقاد.. ووقف أيضا على الجانب الآخر - مما يعرف بالسينما النظيفة - النجم عادل إمام بأفلام مثل «الواد محروس بتاع الوزير»، و«التجربة الدنماركية»، و«أمير الظلام» وغيرها، كان للمرأة كأنثى حضورها الطاغي في أفلام عادل إمام.. إلا أن التيار الأكبر ظل هو السينما النظيفة، مع الزمن بدأت تتغير تلك التصنيفات، وصارت هناك محاولات للخروج من هذا القيد، حتى النجوم مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز لم يعودوا يتدخلون في حذف بعض اللقطات في الأفلام، ولم يتمسكوا بتطبيق قانونهم الخاص الذي يمنع تصوير أي مشاهد عاطفية.. بعض التجارب، على المستوى الفني، بالفعل جيدة لأنها لم تتقيد بكل هذه القواعد الصماء.. دائما كان هناك هامش ما للخروج، وبمنطق مثل فيلم «سهر الليالي» لهاني خليفة عام 2003 الذي لعب بطولته منى زكي، وحنان ترك، وأحمد حلمي، وشريف منير، وخالد أبو النجا، وفتحي عبد الوهاب، وعلا غانم، وجيهان فاضل، نجح الفيلم بقدر لا ينكر، لكنه لم يخلق تيارا مماثلا وظل أقرب إلى حالة سينمائية استثنائية.. تسيدت السينما النظيفة المشهد السينمائي المصري، لها الكلمة العليا وهي التي تحقق الإيراد الأكبر.. إلا أنه قبل ثلاث سنوات حدث تغير نوعي، ظهرت أفلام مثل «عمارة يعقوبيان»، و«حين ميسرة» تناقش قضايا سينمائية لم يتعود عليها الجمهور المصري والعربي كثيرا، مثل الشذوذ الجنسي والسحاق.. كان من الممكن أن تقدم الأفكار التي تحملها هذه الأفلام، ولا بأس بالطبع من ذلك، إلا أن ما حدث هو أننا رأينا استثمارا بعد ذلك لتلك المشاهد حتى وصلنا في العام الماضي إلى فيلم «بدون رقابة» لهاني جرجس فوزي، الذي أسهب كثيرا في مشاهد السحاق التي تقدمها بطلة الفيلم «علا غانم»، كان الفيلم «قبيحا» أكثر من كونه «أبيحا».. والقبح هنا بالمعنى الفني، حيث إنه يخلو من اللمحات الإبداعية، ويبدو وكأن المخرج لا يعنيه سوى أن تزداد جرعة العري والجنس المجاني.. خلال الشهر الأخير عرضت 3 أفلام سينمائية بها مساحة أكبر من العري.. «كلمني شكرا» لخالد يوسف، و«بالألوان الطبيعية» لأسامة فوزي، و«أحاسيس» لهاني جرجس فوزي.. في «كلمني شكرا» يقدم «خالد» مشاهد صريحة بلا مواربة وبلا أي إيحاء فني لغادة عبد الرازق، كان من الممكن أن يكتفي بلمحات منها، لكنه أمعن فيها معتقدا أن هذه هي الطريق المضمون للجذب الجماهيري.. تلعب «غادة» دور امرأة منحلة ولكن ليس هذا مبررا لكي نرى كل هذه الصراحة والمباشرة في التعبير الجنسي.. «بالألوان الطبيعية» أيضا لأسامة فوزي كانت لديه الفرصة مهيأة لمناقشة قضية علاقة المجتمع بالفن، ونظرة الدين إلى ممارسة الفن، وأيضا توجس المجتمع في التعامل مع المبدعين وكيف أنه يمارس عنفا، وأن الإنسان يجد نفسه محاطا بأكثر من مؤثر الدين والأسرة الصغيرة ثم المجتمع بكل أطيافه، حتى في دراسته داخل كلية الفنون الجميلة هناك من يتصدى له من الأساتذة ويقف ضد طموحه المشروع، ولكن أسهب المخرج في مساحة الجنس والقبلات - كان من الممكن اختصارها - وهكذا تهمشت وانحصرت القضية الأساسية في الفيلم.. ثم جاءت الطامة الكبرى في الفيلم الثالث الذي عرض قبل نحو أسبوعين وهو «أحاسيس».. المخرج هاني جرجس فوزي يناقش قضية الأزواج في العلاقات الخاصة، وهي قضية سبق وأن تناولها بإبداع فيلم «سهر الليالي»، ولكن هاني كانت لديه طموحات لكي يحطم شباك الإيرادات تحطيما وهو يعتقد أن سيقان ممثلاته أمثال «مروى» و«ماريا» و«علا غانم» و«إيناس النجار» قادرة على جذب الجمهور.. جنس في جنس، اكتفت الرقابة بأن ترفع لافتة للكبار فقط، والمخرج يقول إنه لا يقدم أفلامه من أجل إرضاء 10 نقاد ولكنه يراهن على الجمهور العريض.. أين هو هذا الجمهور الذي يتحدث عنه المخرج، لم يعثر له على أثر، فلم نرَ مثلا الآلاف التي تقف على شباك التذاكر.. لست ضد أن يتضمن العمل الفني مشاهد جنسية طالما أن هناك ضرورة.. لو راجعنا مثلا فيلما مثل «شباب امرأة» لصلاح أبو سيف، الذي أخرجه قبل 55 عاما، لا يمكن أن تصل الرسالة من دون أن نرى كذلك «تحية كاريوكا».. هناك فارق بين الجنس عندما نضعه لضرورة فنية ودرامية وفكرية، والعري المجاني الذي نراه بكثرة في هذه الأفلام، وقبل أسبوع قدم داود عبد السيد مثلا فيلمه «رسائل البحر»، شاهدنا من النساء امرأة يعتقد البطل أنها منحلة، أدت دورها بإتقان «بسمة»، وأيضا كان بالفيلم مشاهد ساخنة، وعلى الرغم من ذلك لم يكن المخرج يبحث عن إثارة للمتفرج ولا عن اللهاث وراء شباك تذاكر، ولهذا لم يسهب في هذه المشاهد، قدمها برؤية درامية وفكرية حتى يحترم القضية التي يناقشها إبداعيا، فهو يناقش معنى وقيمة الحرية بكل تنويعاتها وقبول الآخر، لكنه لم يقدم أي مشهد جنسي مجاني، ولا تستطيع أن تلمح أي إثارة جنسية.. إنه مخرج يناقش قضية مهمة بالغة الحساسية، فهو يعلم بالضبط أن هذا هو دوره الذي ينبغي عليه أداؤه.. كان هذا هو هدفه الأساسي في الفيلم السينمائي وهذا هو المطلوب للعمل الفني.. ليس مطروحا، ولا هو أيضا مطلوبا، أن تزداد القيود على الفن، ولكن المطلوب، بل والضروري، أن يملك السينمائي أدوات التعبير وإلا سقط في فخ الاسترخاص والفجاجة والغلظة، وهذا هو ما نراه مع الأسف في الكثير من الأفلام التي اعتقد صناعها أن بالجنس وحده يأتي الجمهور!! بالتأكيد أرفض شعار «السينما النظيفة» التي تسيطر عليها تلك الرؤية المباشرة للأخلاق، حيث يحكم على الفيلم باعتباره جيدا إذا خلى من أي مشهد عاطفي وتثبت براءته من الإدانة لو لم نستمع إلى أي كلمة - قد يراها البعض بمفردها، وبعيدا عن السياق الدرامي، تحمل تجاوزا - مهما كان لها منطقها، إلا أنني وفي نفس الوقت، أرى أن الجنوح للجانب الآخر وتقديم سينما مباشرة وفجة ومتجاوزة في العري والجنس ليس هو الحل.. فلا يمكن أن نواجه السينما النظيفة بالسينما القبيحة!! [email protected]