شاهد من يحترم عقلك

د. ريموت بن كونترول

TT

برنامج «المشاهد شاهد» في تلفزيون المنار يستحق جائزة كبرى من اي مهرجان تلفزيوني في العالم العربي لانه اوجد حلا للمعادلة الصعبة وجعل التثقيف عن طريق الاستمتاع ممكنا ومحبوبا، وهذا ما كان ينقص البرامج الثقافية العربية التي احتارت بين سخافات لا ضرورة لها وتعقيد ثقافي تظنه مبرمجا ومقصودا ليبعد الناس عن المعرفة.

ولعل الذين شاهدوا حلقة السبت الماضي وكانت عن الطبيب والفيلسوف الاندلسي (ابن زهر الحفيد) قد لاحظوا ان صنع الدراما في ذلك البرنامج الناجح كان يتم على الهواء مباشرة وكانت الكوميديا فيه معقولة ومقبولة لانها تأتي عفوية ومرتجلة وليست معلبة مثل نكات اشعب وجحا التي حاول البعض استغلالها تلفزيونيا فبكى الناس من سخافة تقديمها بدلا من ان يبتهجوا ويضحكوا للنكتة الذكية في تراثنا العربي.

ان شخصية مقدم برنامج «المشاهد شاهد» الحاج انور شخصية قريبة للقلب وهذه اولى صفات التقديم التلفزيوني الناجح الذي يعني اولا ان تكسب ثقة الاسرة وتشعرها بالبساطة والألفة حتى تظنك واحدا منها.

والنجاح ليس هنا فحسب بل في التوزيع المتقن للادوار، فهناك الشخصية الاساسية في زنزانة وسجين في زنزانة اخرى ويقدم كل منهما جوابا مختلفا للسؤال الذي يطرحه عادة المحقق الذي أداه بتميز الشاعر عقل العويط، وبعد ان يأتي الجواب من احد المشاهدين تقوم الشخصية الحقيقية بالتصحيح، ويكسب المشاهد جائزة ان كان جوابه صحيحا ويظل عنده بعض الامل في الربح في نهاية البرنامج حين تحرير السجين من الزنزانة. والجوائز ليست من النوع المبالغ فيه كي تصبح هي الهدف وليست المعرفة كما في برنامج (من سيربح المليون) ويا قاتل يا مقتول، ووزنك ذهب لايمن زيدان. وبعض الجوائز ليس ماديا انما عيني على شكل بضائع، وهذا توجه يجمع الترويج الى التثقيف ويجعل مؤسسات محلية كثيرة تساهم في البرامج لتفيد وتستفيد، وتحافظ على انتاج هذا النوع من الاعمال التلفزيونية التي نأمل ان تتكثف وتزيد بعد ان اصبح المشاهد العربي رهينة عند البرامج الحوارية التي صارت على قفا من يشيل كما يقول اخواننا في ارض الكنانة وصارت هي وبرامج المسابقات الركيزة الاساسية للتلفزيون العربي.

ومع هذا الاطراء المبكر لـ«المشاهد شاهد» لا بد من ملاحظة على المادة العلمية التي لا يتم تدقيقها جيدا بعض الاحيان، كما في حلقة ابن زهر الذي قيل للمشاهدين في حلقته الاخيرة من برنامج السبت الماضي ان وفاته كانت بين عامي 596 ـ 599 للهجرة وهذا خطأ تاريخي فابن زهر الحفيد مات عام 595 هجرية كما ينص على ذلك مؤلف اكمل كتاب عن الشخصيات الاندلسية وهو الشيخ احمد بن محمد المقري التلمساني صاحب موسوعة (نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب).

وسنة الوفاة هذه ترد في الجزء الثالث من ذلك الكتاب الثمين وبعدها الابيات التي طلب ذلك الشاعر الطبيب ان تنقش على قبره وهي: تأمل بفضلك يا واقفا ولاحظ مكانا دفعنا اليه تراب الضريح على صفحتي كأني لم امش يوما عليه ادواي الانام حذار المنون فها انا قد صرت رهنا لديه وكان ابن زهر هذا من معاصري الفيلسوف الكبير ابن رشد وقد ظننا ان الحاج انور سيعلن عنه لحلقة غد السبت لكنه اختار ان تكون الحلقة عن نيرون وهو شخصية تاريخية اخرى مثيرة للجدل كثر حولها الحوار والاشاعات الى درجة يصعب معها التحقق من المعلومات المنسوبة إليها، وهذا يصعب الوضع على المشاهد الذي يريد الربح وحده، لكنه يقدم مادة علمية وتاريخية ممتعة عن شخصية يقال انها احرقت روما ورقصت على رمادها، وفي هذه الاحوال فإن المشاهد الحصيف يشاهد من يحترم عقله وثقافته لا من يدغدغ غرائزه وجيوبه .

ان النجاح الدرامي الملحوظ في ذلك البرنامج ينبع بعد الشخصيات المرحة من تعدد العصور والشخصيات، فالمحقق يلبس معطفا على طريقة المفتش كولومبو او كاجيت والشخصيات التراثية بلباس عصرها. اما المقدم، فاللباس العادي كاجول ومن دون ربطة العنق المؤذية والياقة المنشاة وكل هذه الاضافات تظنها بسيطة ولا دور لها، لكنها في الدراما المرتجلة ضرورية للايحاء بالالفة وكسب ود المشاهد.

لقد كان رائد البرامج الثقافية التي تمتحن المشاهدين، الشيخ العلمي صاحب برنامج (سين جيم) وقد اختفى ذلك البرنامج ثم عاد ثم اختفى ثالثة، ولو عاد لما استطاع العلمي ان ينافس الحاج انور لان برنامج «المشاهد شاهد» برنامج مرتاح وبسيط وليس فيه ذلك التعالي الثقافي والتقعر بالمعلومات التي تعودنا عليها في (سين جيم)، ونشهدها احيانا في برنامج من سيربح المليون بعد ان يتجاوز الربح حد الـ32000 ريال، وهذا ليس ذنب جورج قرداحي طبعا فهناك لجنة طويلة عريضة للاسئلة تحاول ان تصعب الامور على المتسابقين كي لا يصل احد الى المليون، وهذه سياسة خاطئة لان اول مليون يتم ربحه سيكون دعاية ثمنها مليار لهذه النوعية من البرامج التي استوردناها بصيغتها الغربية ولم نحاول تعريب ملامحها كي نحس بأنها منا والينا بالاذن من لطيفة في اغنية ياسيدي مسي..

ويا سيدي شاهد غدا «المشاهد شاهد» على شاشة المنار فهو برنامج ممتع لعقلك وروحك وهذه دعاية مجانية يستحقها الحاج انور وفريقه لنجاحهم في ابتكار معادلة تخلط باتقان بين المتعة والثقافة.