يوسف شاهين لـ «الشرق الأوسط»: تعبت من العولمة وعملي في فيلم موسيقي أنقذ حياتي

مخرج فيلم «سكوت حنصور» الذي كرمه مهرجان البندقية السينمائي يتحدث عن فيلمه الأخير

TT

دقائق طويلة للتصفيق وقوفا لتحية المخرج العربي يوسف شاهين، مشاعر عميقة واحساس بالامتنان اعرب عنه عشرات النقاد والسينمائيين الذين حضروا حفل تكريمه أول أمس بمنحه جائزة «مايسترو السينما» من قبل ييناله البندقية ومهرجان الفن السينمائي المقام الآن بجزيرة الليدو بمدينة البندقية.

استقبال فيلم «سكوت حنصور» الذي عرض بعد حفل تسليم الجائزة، لم يكن أقل حرارة، اذ تكرر التصفيق وامتزج بدموع جميلة من الفنانة لطيفة التي أدت دور «ملك» في الفيلم.

تقول لطيفة: «كان يخاف علي اثناء التصوير اكثر مما أخاف أنا على نفسي، كان صوتي بالنسبة له بمثابة الابن لذا كان يرعاه ويدلله ويوفر له الأمان». وتضيف «العمل مع يوسف شاهين كان بالنسبة لي حلما تحقق، ولست واهمة بانني امتلكت ناصية التمثيل، لكن العمل مع هذا الفنان الكبير فتح لي آفاقا جديدة ولا استبعد ان اكرره في المستقبل، بشرط العمل معه أو مع فنانين كبار يمتلكون نفس ابداعه».

يتناول فيلم «سكوت حنصور» حياة المغنية الشهيرة «ملك» التي تعيش في حالة قلق دائم: هل يحبها المحيطون بها لذاتها، أم انبهارا بشهرتها وصيتها الكبيرين؟ ومما يزيد الطين بلة انها بالغة الثراء مما يجعل من تهافت الجميع حولها أمراً مشكوكا فيه.

بعد سنوات طويلة من الحياة مع زوجها (عباس) يقرر الانفصال عنها، مما يجعلها تشعر باهانة لكرامتها وانوثتها. ويتمكن طبيب نفساني شاب (لمعي)، يلعب بحنكة على حرمانها العاطفي وضعفها، من لفت انتباهها له.

وكلما زادت معرفتها به، تأججت مشاعرها نحوه لتتحول الى عشق ووله وسط اندهاش كامل من كل المحيطين بها، خاصة «ألفي»، كاتب سيناريوهات كل افلامها، و«عز الدين» مخرج افلامها، وكلاهما من اصدقائها المقربين ـ ويحاول الجميع انتشالها من هوسها بهذا الشاب لكنهم يفشلون في البداية. لذلك يضطر صديقاها الى اللجوء لحيلة لإبعادها عن ذلك الشخص الذي يمثل خطرا حقيقيا على تاريخها ومستقبلها الفني، ولانجاز خطتهما يلجآن لابنتها «بولا» التي تبلغ من العمر 19 عاما.

فهما يقنعان «لمعي» ان «بولا» ستكون الوريثة الوحيدة لثروة العائلة ويأملان ان يؤدي جشع «لمعي» الى تغيير خطته واستبدالها بخطة لملاحقة «بولا» للحصول على ثروتها، وهو ما يحدث بالفعل وتكتشفه «ملك» لتعود الى فنها، مدركة ان من وهب حياته لاسعاد الجماهير، لا يستطيع ان يسمح لنفسه بأن يكون عبدا لنزوات شخصية.

وبمناسبة تكريمه وعرض فيلمه كان لنا هذا الحوار مع شاهين.

* بعد 36 عاما من «بياع الخواتم» الذي صورته مع الفنانة فيروز عدت الى الفيلم الغنائي بـ«سكوت حنصور» مع الفنانة لطيفة.. لِمَ هذه العودة؟

ـ شعرت بانني محتاج لذلك، وكذلك الجمهور كان بحاجة ان يشاهد عملا مثل هذا. الموسيقى بالنسبة لي كانت مهمة على الدوام وهي موجودة في جميع افلامي، اذ ليس هناك فيلم من افلامي «فلت من المزيكة»، في هذه المرة شعرت بأن المناخ الذي نعيش في ظله والقتامة التي تخيم علينا وعلى مستقبلنا، والتعب الناتج عن العولمة و«المعولمين الذي سيخربون بيتنا»، جعلني أمر بمرحلة من القتامة النفسية والحزن والكآبة، لذا كنت ابحث عن أي شيء يدخل الفرح الى قلبي ويغمرني بشيء من السعادة، فالسعادة حاجة انسانية مقدسة ومشروعة، واعتقدت ان انجاز فيلم موسيقي قد يدخل بعض السعادة الى قلبي.

كان العمل في الفيلم بالنسبة لي انقاذا لحياتي، لانني وأنا اصور الفيلم كنت اتردد على المستشفى بشكل متواصل، وكان التصوير يتوقف، لكن كان هناك ما يربطني خارج جدران المستشفى، أي الفيلم، لذا كنت أهرب من ردهة العناية وأعود الى مكان التصوير وسط الشباب والموسيقى والأغاني، وأحصل على أحسن دواء لعلاج مصائب قلبي العليل.

* عز الدين، المخرج الذي يؤديه في الفيلم الفنان زكي فطين عبد الوهاب، كان يسلك ويتصرف ويتحرك ويؤدي بالضبط، كما لو كان يوسف شاهين، فهل كان هذا فرضا منك أم ان الدور كان مكتوبا بطريقة تتناسب معك ولم تتمكن من ادائه؟

ـ دور المخرج هو خليط من يوسف شاهين وعز الدين ذو الفقار الذي أشعر دائما انني مدين له بالكثير، فبفضله انجزت فيلمي «جميلة» و«صلاح الدين»، إنه بمثابة تكريم لهذا الفنان العظيم، انا لا انسى الاشخاص والاصدقاء والزملاء الذين ادوا لي «الخير».

أنا لم أدفع زكي للسلوك كما لو كنت أنا. قد يكون هناك من يشبهونني في الهيئة والشكل، وزكي قريب مني جدا، وعمل مساعدا معي، وربما اقتبس مني بعض السلوكيات والحركات.

* موضوع الفيلم، الفنانة الجماهيرية التي تعيش في أزمة وتغرم بشاب يصغرها سنا يوحي اليها بالحب ويوهمها بمستقبل مليء بالسعادة، موضوع طرقته السينما المصرية كثيرا..

ـ لم يكن هذا هو الاساس الذي اريده في الفيلم؟

* ماذا كان إذن؟ هل كان صراع الاجيال من خلال الشخصيات النسائية الثلاث (الجدة، الام والحفيدة..) أم قضية المصالحة الاجتماعية التي عمدت اليها؟

ـ لا، الاساس هو ماذا علينا ان نفعل عندما نجد انتهازيا بيننا. والعولمة أوجدت الآلاف منهم والذين يتسترون بتسميات عديدة مثل رجال الاعمال، وهم اناس لا «شغلانة» لديهم الا تحين فرصة افلاس شركة أو مؤسسة للانقضاض عليها ليقوموا بابتلاعها. الكيانات الكبيرة تبتلعنا جميعا.

الواحد من هؤلاء الناس تنتبه اليه الان، تراه يولد لديك الاحساس بانه ولد «حرك» و«فتك» و«جامد»، لكنه في حقيقة الأمر ليس الا انتهازيا و«وسخ».

سؤالي اثناء الكتابة والتصوير كان: هل تتمكن هذه العائلة من تخليص الفنانة «ملك» من براثن هذا الـ«لمعي» الانتهازي؟ الجدة ـ ماجدة الخطيب ـ كانت تردد عليها وتصر في القول «إنت وهبت نفسك للآخرين وليس من حقك اللعب حتى بقلبك، ليس بامكانك ان تقولي لازم احب، فمهنتك أولاً وقبل كل شيء..

هذا ما أردده دائما على طلبتي وجميع الفنانين الذين عملوا معي. أقول لهم لا تنتظروا ان تأخذوا كل شيء، ربما تحصلون على الشهرة والمال، لكن الحياة الفوضوية قد تؤدي الى الخراب، الحب يجب ان يكون حبا حقيقيا...

* عقدت، كما قلت، مصالحة اجتماعية من خلال الزواج النهائي بين «بنت الذوات» و«ابن السواق»، هل تعتقد بأن ذلك يمكن ان يتحقق في المجتمع المصري الحالي؟

ـ برأيي الشخصي، أجل. برأيي انه لا يزال هناك أناس منفتحون نحو الآخر ولا ينظرون الى الآخرين بنظرة استعلاء بسبب الانتماء الى الطبقة الافقر. لقد اظهرت في الفيلم حالة الهستيريا التي تصيب البعض بسبب التهافت وراء المال.

هناك امكانية ان تتزوج «بنت الذوات» «ابن السواق» في المجتمع المصري الحالي، وهنا تكمن شطارة الجدة، لقد شاهدت العز والجاه، لكن لديها القناعة ان ما هو مهم هو ان يكون الانسان طيب القلب دون الاهتمام كثيرا بمقدار ما يملك.

مرات نسمع جملة «شو بيسو فلان؟» هل تفهم من ذلك ان السؤال عن مقدار ما يملك «فلان» في البنك، أم مقدار أهميته كانسان؟ انها جملة جميلة وقوية وانا افسرها بالتفسير الثاني، والجدة كانت تبحث عن الانسان ووجدته في الشاب عبد الناصر وخططت لانتصار الحب بين عبد الناصر وبولا.

إذا اضعنا انسانيتنا لن نكسب أي شيء.

* عمر الشاب عبد الناصر في الفيلم دون الثلاثين، وهو بالتأكيد ولد بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، إلا انه يحمل ذات الاسم واصررت على ان يكون تقدميا ومكافحا من أجل الحق والحرية وانسانا ناجحا، هل تعتقد ان شباب اليوم قادرون على فهم التجربة الناصرية والحديث والدفاع عنها؟

ـ أجل بالطبع. اسأل من تشاء من الشباب، تجد ان جزءاً كبيراً منهم يدافع عن الرئيس عبد الناصر حتى من دون ان يعرفه أو يكون قد عايش فترته. ربما يكونون قد سمعوا عنه مجرد اخبار لكنه، (أي الرئيس عبد الناصر) «واحشهم ونفسهم في عبد الناصر جديد»، انهم يسألونني دائما، عندما تتاح لي فرصة اللقاء بهم «اين عبد الناصر، وماذا كان يفعل وكيف كان سيتصرف في ظل ظروف مثل هذه الظروف؟ انهم يحبون عبد الناصر لانهم يعتبرونه قائدا ذا نية طيبة على الأقل، وكان راغبا في ان تحقق العروبة التقدم والحرية، كان يريد للمصريين ان يرفعوا رؤوسهم.

كان عبد الناصر يبحث عن ملايين الناس، الذين اصبحوا في عداد المنسيين الآن ولم يعد يسأل عنهم أحد، غير التقدميين الذين أفتخر بكوني واحدا منهم.

* في المشهد الأخير من الفيلم نشاهد الانتهازي جان جاك لمعي، يبدو وكأنه يذرف دموع الندم بينما «ملك» تغني اغنية تؤكد فيها صعوبة نسيان الحبيب، يبدو المشهد وكأنه حوار بين الشخصيتين، أهو محاولة للايحاء بلقاء جديد محتمل بينهما، ربما في فيلم آخر، على الطريقة الاميركية التي تبقي النهايات مفتوحة دائما؟

ـ لا، لن أفعل أي شيء مثل السينما الاميركية. لقد فعلت ذلك متعمدا لأؤكد أنني لا أحب اعتبار البشر أشراراً بشكل كامل وانه لا مجال للندم أو التوبة. لو كانت هناك مجرد بارقة ندم لدى هذه الشخصية الخاسرة بالتأكيد، الندم الحقيقي والتوبة، أشعر بأنه من «بني آدم».

لم يكن بالإمكان ان أظهر «ملك» وكأنها نسيت ذلك الذي احبته بصدق، أبالإمكان نسيان الحبيب فجأة؟ انك تحتاج الى وقت طويل لتنسى تجربة حب، وربما لن تنسى أبدا. العلاقة بينهما انتهت، لكن بالتأكيد هي احبته حبا حقيقيا.