نسائم منعشة من الظلال المنسية

فوزي كريم

TT

داخل التيار العام والمألوف للموسيقى الكلاسيكية، تبدو التاسعة لبيتهوفن أو عايدة لفيردي أو آلام القديس ماثيو لصيقة بجلد المستمع، يعرف ما خفي من اسرارها بفعل الصحبة الطويلة. وهذا يصح على الكثير الكثير من الأعمال التي تسمى في الانجليزية الماستربيس. داخل التيار العام يتطلع السابح الى الغريب المفاجئ، الذي لا عهد له به. لنأخذ على سبيل المثال شوبرت (1797 ـ 1828)، فنحن ألفنا سيمفونياته التسع، ورباعياته الخمس عشرة، وسوناتات البيانو الثمان عشرة، وأعمال موسيقى الغرفة، وأغانيه التي تجاوزت الستمائة، ولكن اغنيات درامية من اوبرات له تبدو غريبة ومفاجئة. لا شك ان معرفتنا بمحاولات شوبرت في حقل الأوبرا لا غبار عليها، ولكننا نعرف ايضاً أن محاولاته باءت بالفشل وتركت في مخطوطاتها منسية.

دار Hyperion تفاجئنا بمجموعة آريات (أغنيات أوبرالية) منتخبة من اوبراته المنسية لصوت الباريتون الرجالي (يؤديه أوليفر ودمير) مع الاوركسترا تحت قيادة يان شولتس للاوركسترا الوطنية الهنغارية.

كان تأثير أوبرا روسيني على فيينا سحرياً. ولأن بين صحبة شوبرت الأثيرة عدداً من الشعراء والدراميين، فقد وجد الموسيقي الشاب اكثر من محفز للمساهمة في التأليف في هذا الفن، بالرغم من أن غنائية شوبرت الفائقة للعادة لم تترك لموهبته فسحة للفن الدرامي، ولكنه حاول اكثر من عشر مرات، فوضع عدداً من فن Singspiel الشائع في فيينا، وهو ضرب من الاوبرا الشعبية ذات الطابع الفكاهي، ثم عدداً من الاوبرات الأكثر جدية ذات الإرث الايطالي. ولقد اعطى شوبرت ثقلاً واضحاً لصوت الباريتون العالي، في هذه الأوبرات وفي معظم اغانيه ايضاً، والسبب لا يعدو اعجاباً وصداقة ربطاه بالمغني الشهير آنذاك يوهان فوغل.

في هذا الاصدار اغنيتان من اوبرا «التوأمان»، واخرى من اوبرا، «قبة مباهج الشيطان»، واغنيتان من اوبرا «الفونسو واوستريلا»، ثم من «اصدقاء سالامانكا»، و«كونت مدينة غليشن» و«الرباط»، وجميع هذه الأغاني، وهي تعبر عن لحظات درامية وشخوص واحداث، لا تبخل على الأذن بطاقة شوبرت على توليد اللحن، خاصة في اللحن الذي يتوالد ويتطور وفق النص الشعري through composed song لا في الأغنية التي يتكرر اللحن ذاته في كل مقطع strophic song.

المغني السويسري اوليفر ودمير (مواليد 1965) كان رائعاً في الأدوار المتنوعة، التي تعكس مراحل وأمزجة وشخوصاً مختلفة عن بعض. والمقطوعة هنا تقف بين الأغنية الفنية (الليد lied) والأغنية الأوبرالية (آريا Aria)، وهذه المختارات تطمع بالكثير مما لا نعرف من نتاج هذا الموسيقي، الذي مات في الواحد والثلاثين، مخلفاً ثروة ألحان لم يشهد عزفها في حياته.

بنفس مستوى هذا التقديم الغريب والمفاجئ اصدرت hyperion ايضاً اسطوانة بعملين من اعمال كونشيرتو البيانو لا عهد لي بهما ولا بمؤلفهما، باستثناء عمل واحد ظل يتكرر في الظل منذ عقود، هو كونشيرتو البيانو الرابع.

المؤلف هو هنري ليتولف (1818 ـ 1891)، فرنسي من مواليد لندن، حياته أشبه برواية غريبة ومتسارعة الاحداث. بدأت موهبته في عزف البيانو بوقت مبكر جداً، تحت رعاية أبيه. في عمر السابعة عشرة هرب مع فتاة وتزوجها عن غير موافقة من أبويه، وأقام معها في فرنسا وهناك وضع كونشيرتو البيانو الأول، هجر زوجته التي عادت الى لندن، وفي بروكسل تورط في فضيحة غرامية، ذهب على اثرها الى وارسو، ثم لايبزك، حيث وضع كونشيرتو البيانو الثاني. مهارة تقنيته عرفته بليست وشوبان وحقق شهرة نافعة. رجع الى لندن للطلاق من زوجته الأولى ولكن المحكمة فرضت عليه غرامة رفض دفعها فسجن. ولكنه سرعان ما هرب مع ابنة سجانه الى هولندا. وهناك ألف كونشيرتو البيانو الثالث الذي عزز من نجاحه الأكيد.

على هذا الايقاع تواصلت حياة هذا الموسيقي الذي لا يعرف معنى الاستراحة. تزوج أربع مرات، وتجول في كل بلدان الغرب حتى روسيا. قطع سنوات صمت حسبها المعنيون بحياته، سنوات نوبات مرض عقلي كان يعاني منه. وجرب الخوض بالسياسة في فيينا وعانق افكاراً ثورية كاد يسجن بسببها فهرب، ثم بعد سنوات استقر في باريس. وكان الكونشيرتو الرابع والخامس آخر نشاطه الموسيقي الناضج.

في هذا الاصدار نقع على كونشيرتو البيانو الثالث والخامس. والمؤلف يصر على تسمية عمله بـ «الكونشيرتو السيمفوني»، لأنه يعتمد، شأن السيمفونية، على حركات اربع. وهذه ليست حجة مقنعة، التقنية فيهما وليدة فيوضات عاطفية محتدمة، تحسها حتى في الحركة التأملية البطيئة (الكونشيرتو الثالث).

انه امر رائع ان تأتيك بين حين وآخر هبة هواء جديدة من تلك المرحلة الرومانتيكية العاصفة، هبة تذكرك باحتراقات بيرليوز، وقد كان صديقاً ومعجباً بليتولف، وبمدهشات ليست، الذي كان صديقاً ومعجباً ايضاً.

في الكتيب المرفق مع الاصدار اشارة الى ان الدار سبق ان اصدرت الكونشيرتو الثاني والرابع، كان عازف البيانو، في جميعها، الانكليزي بيتر دونوهو (مواليد 1953) الذي حقق مسيرة عازف ناجح منذ فوزه في مسابقة تشايكوفسكي العالمية لعام 1982.

Schubert Opera Arias (Hyperion) Litolff: Concerto Symphonique (Hyperion)