المثقف يبيع نفسه لمن يدفع أكثر

«تلك الأيام» صارت «هذه الأيام»

TT

هل هي صحوة في السينما المصرية فقررت أن ترتكن للرواية وتعتبرها بمثابة البنية التحتية وتبدأ بعدها في تشييد البناء السينمائي؟ هل هي حقا صحوة أم مجرد صدفة حيث شاهدنا في غضون أسبوعين فقط فيلمين مأخوذين عن روايات أدبية: «عصافير النيل» رواية «إبراهيم أصلان» أحالها مجدي أحمد علي إلى فيلم. ثم «تلك الأيام» لفتحي غانم التي قدمها في أول تجربة روائية له بعد أن أخرج قبلها عددا من الأفلام الروائية القصيرة الهامة.

أتصور أن الصدفة هي التي صنعت هذا التوجه، وذلك لأننا تعودنا أن السينمائيين تحركهم بوصلة أخرى لصناعة الفيلم السينمائي حيث تخضع رؤية المخرج لإرادة النجم وقد تتدخل إرادة المنتج بنسبة ما، ولكن يظل المخرج الذي يحلم بمشروعه عادة خارج المنظومة السائدة للسينما المصرية. قبل أن يرى فيلم «عصافير النيل» النور كان قد حصل السيناريو على دعم عيني من وزارة الثقافة المصرية يصل إلى نصف مليون دولار، وعلى هذا أصبح مشروع الفيلم قابلا للإنتاج بإرادة المخرج. تناولنا «عصافير النيل» الأسبوع الماضي.

الفيلم الثاني الذي نحن بصدد الحديث عنه هذا الأسبوع هو «تلك الأيام» لفتحي غانم تحمس ابن المؤلف لقصة أبيه فتحي غانم وهو واحد من أهم كتاب الرواية العربية، وهكذا ربما وجد أيضا أن شركة إنتاج محمد العدل لديها قناعة بالرواية وهي من المرات القليلة التي نجد فيها شركة إنتاج تملك هذا الحس الأدبي.

في «تلك الأيام» الأصل الروائي تجري أحداثه خلال 30 عاما من 1933 حتى 1962. السنوات القليلة التي تسبق الحرب ووصولا إلى الانفصال المصري السوري بعد فشل الوحدة عام 1961 التي لم يزد عمرها عن ثلاث سنوات!! المرحلة الزمنية طرحت أيضا شخصياتها مثل الإرهابي والمثقف. الإرهابي كان يقاوم الاستعمار البريطاني في مرحلة الأربعينات حتى قيام الثورة عام 1952 والمثقف الذي بات عليه أن يدرك، سواء في العهد الملكي أم الجمهوري، أن عليه الخضوع لإرادة النظام في توجهاته، فلقد جرب أن يتمرد واكتشف أن المجتمعات الدكتاتورية كما قال له أستاذه لا تستطيع أن تتحمل حتى ولا نصف الحقيقة.

الفيلم يبدأ بأن نتعرف على أستاذ الجامعة «سالم» الذي أدى دوره محمود حميدة وهو يقيم حفلا في بيته ولكن قبل أن نرى هذا المشهد تتحرك الكاميرا دائريا حول رقعة الشطرنج التي تتدثر بالظلام حيث لا يبقى من النور إلا فقط بصيص خافت لا تستطيع أن تستبين منه حقيقة الصورة وذلك من خلال تنفيذ متقن لمدير التصوير أحمد عبد العزيز، حيث تبدو كأنها تقدم للمشاهد بداية هذه العلاقة الملتبسة بين كل الأطراف الرئيسية القائمة على معادلات يلعب فيها العقل، مثل لعبة الشطرنج، القسط الوافر منها وينتهي الفيلم بمشهد مماثل أيضا.

في الدراما دائما ما نجد الثالوث الشهير الزوج والزوجة والعشيق. ولكن ليست هذه هي الرؤية التي يقدمها لنا فتحي غانم في الرواية الأصلية وليست هي أيضا ما حرص عليه أحمد غانم رغم أننا ظاهريا نرى هذا الثالوث، ولكن لا «سالم» الذي أدى دوره محمود حميدة زوج مخدوع بالمعنى المباشر للكلمة ولا الفنانة الجديدة التي أدت دور «زينب» ليلى سامي هي الزوجة الخائنة ولا أحمد الفيشاوي هو العشيق بمعناه التقليدي. الفكرة التي نبت منها العمق الروائي الإبداعي هي أننا أمام شخصيتين عاجزتين بالمعنى الرمزي والفعلي هما محمود حميدة وأحمد الفيشاوي حتى في علاقة كل منهما مع «زينب». الزوج والعشيق وجهان متناقضان ظاهريا متماثلان داخليا. وهكذا جاءت نهاية الرواية تملك كل القوى والعمق والإبداع عندما منح أحمد الفيشاوي المسدس إلى حميدة ليقتله فلم يستطع رغم أنه سوف يغادر المكان مع زوجته.

الرواية تقدم الاثنين وهما يجلسان جنبا إلى جنب بينما تتحرك البطلة بالعربة فتغادر الموقع متجهة للقاهرة، فهما وجهان لعملة واحدة، الإرهابي القديم والمثقف الذي يبيع نفسه. بينما لجأ الفيلم لحل درامي آخر يخصم الكثير من الألق الذي قدمته الرواية وذلك عندما يطلق حميدة النار على نفسه ويخر قتيلا ويخرج أحمد الفيشاوي وليلى سامي معا. وهي نهاية قد ترضي الجمهور أكثر فهو يجب أن يطمئن على أبطاله. وظل السيناريو الذي اشترك فيه المخرج مع الكاتبة علا عز الدين حريصا على التمهيد له على حساب الرؤية المطروحة في العمق الأدبي للرواية.

أحمد الفيشاوي الذي يؤدي دور «عمر» إرهابي في الرواية، لكنه في المعالجة السينمائية ضابط يطارد الإرهابيين أثناء تعرض مصر لأحداث العنف الذي اجتاح مصر في مطلع التسعينات عندما أطل الإرهاب الديني المسلح بقسوة على البلد ومقدراتها. ثم إن الرؤية مختلفة تماما بين أن تشارك في الإرهاب والقتل وأن تتحول إلى شرطي يطارد الإرهابيين، حتى لو قتلت الإرهابيين يظل الفرق واضحا، وكذلك الخيانات التي مارستها «زينب». الفيلم حاول أن ينفيها تماما ليظل يلعب على مشاعر المتفرج بالمفهوم الأخلاقي لشخصية البطل والبطلة الإيجابيين حتى يستمر التعاطف معهما، ولم يكن هذا هو هدف الروائي لأنه لم يحمل لأي منهما أي إدانة أخلاقية بمعنى الخيانة الزوجية من أي نوع.

الفيلم انتقل إلى هذا الزمن لنعيش هذه الأيام وليست تلك الأيام التي كانت تجري فيها أحداث الرواية التي بدأت في منتصف الثلاثينات وانتهت في مطلع الستينات بمتغيرات أخرى، رغم أن الإطار الزمني الذي قدمه فتحي غانم راهن على التحليل النفسي والاجتماعي لشخصياته وهي تصلح لكل زمان ولكن عندما انتقل لهذا الزمن اضطر أن يلعب بكل تفاصيل هذا الزمن مثل الموبايل ليشكل نقطة فارقة في علاقة «زينب» مع «سالم» وأيضا العلاقة مع إسرائيل والتطبيع كإحدى القضايا الثقافية المطروحة على الساحة. ولم تكن بالطبع لها أي حضور في زمن الرواية وهكذا يبدو المثقف طبقا للرؤية السينمائية حائرا في تحديد موقعه من تلك القضية. الفيلم يقدم تنويعة قبل نهايته على المشاهد الأخيرة من فيلم «الكيت كات» عندما ينفتح ميكروفون سرادق العزاء من دون أن يعلم الشيخ «حسني» ويفضح كل أهل الحي عندما يذيع كل آرائه فيهم.. وهذا هو ما حدث بالضبط في «تلك الأيام» مع تغيير في طبيعة الأداة.

الفيلم لم يصل إلى الطموح الإبداعي للرواية ولكن لا شك أنه بداية مبشرة جدا للمخرج أحمد غانم الذي حافظ على الجو العام للفيلم، سواء أداء ممثليه أو التعبير بالصورة والصوت. وأرى أن هذا هو أفضل دور قدمه أحمد الفيشاوي طوال رحلته الفنية التي طالت 10 سنوات وتوظيف جيد جدا لإمكانياته.

كما واصل محمود حميدة صعوده الفني في تلك المساحة والمرحلة العمرية التي يعيشها الآن والتي منحته أدوارا يتجدد من خلالها لأنه قادر على اقتناصها محافظا على اسمه من الاستهلاك وهكذا مثلا قد نرى أسباب عزوفه عن المسلسلات التلفزيونية ليظل له بريق السينما. ليلى سامي هي بالتأكيد «زينب» كما تخيلها فتحي غانم.. اختيار جيد دراميا أن يقدمها لنا المخرج وهي تردد بصوتها الأغاني بين كل مقطع وآخر للتعبير عن المواقف. أداء نغمي ممتع وليس فقط أداء دراميا. كنت مبهورا طوال الفيلم بتلك القدرة وهذا الحضور لهذه الممثلة الجديدة وكانت قادرة على أن تسرق العين. أحمد عبد العزيز، مدير التصوير المبدع الذي حافظ على أن يمنح الفيلم خصوصية في التناول بالضوء. كما أن موسيقى عبده داغر ويحيى الموجي نسجت بجمال حالة الفيلم. مونتاج أحمد داود أحد أبطال الفيلم. «تلك الأيام» ليست هي الفترة الواقعة في زمن الرواية نحو 30 عاما من الثلاثينات حتى مطلع الستينات وليست أيضا هي تلك السنوات من زماننا التي نعيشها الآن ولكنها كل الأيام التي نعيشها وعشناها أو سوف نعيشها. المعادلات لم تتغير ولا أيضا الحسابات، وكثيرا ما نرى المثقف في عالمنا العربي وهو يبيع نفسه لمن يدفع أكثر ثم يكتشف في النهاية أنه يمسك الهواء بيديه.