الثنائيات الغنائية بين الأمس واليوم

بدأت في ثلاثينات القرن الماضي.. وفتحت المجال أمام الابتكارات الفنية

TT

في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، دخل الصوت على الشريط السينمائي ليفتح المجال أمام الكثير من التجارب والابتكارات الفنية، وحاول المنتجون الاستفادة من ذلك التطور الهائل لكسب المزيد من الجمهور وزيادة أرباحهم ورواج أفلامهم.. فعمدوا إلى إسناد بطولة أفلامهم إلى المطربين والمطربات ممن لديهم شهرة وشعبية، وهكذا بدت السينما العربية «المصرية» في العشرين سنة الأولى من عمرها، استعراضية غنائية ميلودرامية، وبذا حقق منتجو الأفلام هدفين رئيسين في آن واحد، أحدهما مقصود وهو الربح والرواج، والثاني غير مقصود وهو نشر الأغنية العربية «المصرية بالأخص» وزيادة جمهورها خارج حدود المحلية، فصار أن عرف الناس الكثير من المطربات والمطربين صوتا وصورة، بعد أن كانت الأسطوانات ثم الإذاعات هي المصادر الوحيدة للاستماع عن بعد.

وفي تلك المرحلة، لم تعرف الساحة الفنية العربية أي ثنائي غنائي لا قبل السينما ولا في بدايتها.. حتى بدأ الموسيقار محمد عبد الوهاب بالظهور في الأفلام والغناء مع بعض المطربات، آنذاك، مثل ليلى مراد، نجاة علي. وغيرهن.. ولذا، كان لظهور الموسيقار فريد الأطرش وشقيقته أسمهان كثنائي في فيلم «انتصار الشباب» عام 1941 صدى كبير وتأثير واضح في الحركة الفنية الغنائية، مهد لظهور الكثير من الثنائيات في ما بعد.. فقد شكل هذا الثنائي حضورا فنيا واجتماعيا راقيا في مجتمعات محافظة، شبه مغلقة. ورغم أن الأطرش لم يظهر مع أسمهان إلا في فيلم واحد وهو انتصار الشباب، ولم يغن معها إلا أوبريت واحد في الفيلم نفسه وبالعنوان نفسه.. بل لحن لها أشهر وأروع أغنياتها.. مثل: « ليالي الأنس، ياللي هواك، يا ديرتي.. يا بدع الورد، رجعتلك يا حبيبي، أهوى.. إلخ». ومع ذلك، اعتبر هذا الثنائي حالة فنية رائدة، لم تتكرر حتى الآن بالشروط والمواصفات نفسها.

بعده قدمت السينما ثنائيات مؤقتة، يفرضها موضوع الفيلم أو الضرورة الدرامية أو جهة الإنتاج.. فيشترك مطرب مع مطربة بأغنية واحدة أو أكثر في فيلم ما، وقد لا تتكرر التجربة مرة أخرى. وربما تكون الفنانة شادية أكثر المطربات اللواتي قدمن ثنائيات غنائية.. فقد شاركها الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين وفنان الاستعراض منير مراد والمنلوجست محمود شكوكو في الكثير من الأوبريتات والمنولوجات.. منذ منتصف الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات، وفي فيلم لحن الوفاء غنت مع عبد الحليم حافظ «احتار خيالي»، و«تعال أقولك»، وأوبريت « لحن الوفاء»، وفي فيلم «دليلة» «إحنا كنا فين»، وفي فيلم معبودة الجماهير «حاجة غريبة»، وغنت مع فريد الأطرش في فيلم «إنت حبيبي» أغنية «زينة.. زينة»، و«يا سلام على حبي وحبك».

المطرب كارم محمود قدم ثنائيات كثيرة مع مطربات تلك الفترة مثل شهرزاد، شافية أحمد، راوية، عصمت عبد العليم.. وأشهر ثنائياته «محلاها الدنيا» مع فايدة كامل، «قلب فنان» مع سعاد مكاوي، و«الزمان والحب» مع نازك.

وكذلك المطرب محمد فوزي غنى مع معظم المطربات اللواتي مثلن أمامه.. مثل، ليلى مراد، صباح، نور الهدى، نازك. والموسيقار فريد الأطرش أيضا كون ثنائيات مع أغلب المطربات اللواتي وقفن أمامه في أفلامه! وعلى الرغم تزامن وجود الفنانة ليلى مراد وشقيقها الملحن منير مراد، وكذلك الفنان محمد فوزي وأخته الفنانة هدى سلطان، الذين لم يشكلوا ثنائيات ولم يتعاونوا فنيا إلا في مرحلة متأخر وبعدد قليل من الألحان، «كوّن كل منهم حالة فنية متميزة على انفراد»، فإنه لم يظهر في الأوساط الفنية العربية أي ثنائي بين أخ وشقيقته بعد فريد الأطرش وأسمهان، ربما لأن نظرة الناس إلى عمل المرأة في الفن، والغناء خاصة، ظلت متدنية، للأسف، إن لم تكن متشددة أو رافضة، في بعض المجتمعات، فالمرأة تتردد في تكوين ثنائي دائمي مع رجل «مطرب» لا يخصها أو يقربها.. ولهذا، كانت أغلب الثنائيات التي ظهرت في الستينات والسبعينات مكونة من زوجين، انتهى بعضها بانتهاء العلاقة الزوجية.. مثل الثنائي اللبناني جمال وطروب، وهو الأكثر شهرة والأطول بقاء وآخر ثنائي، دائمي، في لبنان (انفصل في منتصف الستينات).. والذي قدم الكثير من الأغنيات التي ظلت عالقة في أذهان الجمهور لحد الآن مثل «مليت.. مليت» «من فضلك يا ست البيت» «سامع قلبي ازاي يدق»، «قول سمعني كمان».. ثم في نهاية الخمسينات اشتهر في سورية الملحن والمطرب العراقي الأصل محمد ضياء الدين بأغنية «مهلك.. مهلك»، ثم انتقل إلى مصر ليغني عدة أغنيات «دويتو» مع مطربات تلك الفترة مثل أحلام ومواهب ولبلبة قبل أن يكوّن ثنائيا دائميا مع زوجته المطربة ندى، عرف الثنائي باسم ضياء وندى، ومن أشهر أغنياته «حكاية حبنا» و«بيحيروك» و«بيحبني قال» وانتهى الثنائي بالانفصال.

إضافة إلى ذلك، كانت هناك ثنائيات مؤقتة (دويتو)، الذي يقدم أغنية واحدة من باب التنويع والتغيير.. حيث قدمت صباح مع وديع الصافي الكثير من المواويل والأغاني الشعبية.. فيروز مع نصري شمس الدين ووديع الصافي في مسرحيات وأفلام كثيرة.. نجاح سلام مثلت فيلم «يا سلام عالحب» مع فهد بلان وقدما أغنيتهما المشهورة «أنا النحلة.. وانا الدبور».. هدى حداد مع رجا بدر ومع وديع الصافي في أغنية «يابو مرعي».

في الثمانينات.. استمرت الثنائيات الغنائية المؤقتة، سهام ومحمد وهيب قدما أغنية «خلي يا خلي».. سيتا هاكوبيان وسعدون جابر قدما أغنية «وصلنا لو بعد».. هيام يونس وعبده موسى قدما «سافر يا حبيبي وارجع» و«يام الجدايل».. سلوى العاص وشكري عياد قدما «على دلعونا».. رابح درياسة وسلوى الجزائرية قدما أغنية «يا الشمس».

في العراق، ظهر أولا، الدويتو المؤقت.. وأشهر أغنية عرفها الجمهور في الستينات هي أغنية «لو رايد عشرتي وياك» للمطرب الريفي داخل حسن مع ريم، ثم غنى المطرب والملحن رضا علي مع المطربة راوية أغنية «عيني وأغلى من عيني».. وفي السبعينات، ظهرت ثنائيات استمرت طويلا، أشهرها الثنائي مي ووحيد الذي انطلق بأغنية «استعجل يا ميل الساعة»، وما زال هذا الثنائي قائما لحد الآن رغم قلة نشاطه.. والثنائي سوسن ومحمد الذي عرف بالأغاني الفولكلورية ثم الثنائي البابلي المكون من الشقيقين فوزية وفاضل المستمر، أيضا، لحد الآن.. وهي المرة الثانية التي يتكون فيها ثنائي من أخ وشقيقته، بعد العملاقين فريد الأطرش وأسمهان.. ويعتبر استمرار الثنائي فوزية وفاضل في الغناء، أمرا استثنائيا في العراق، حاليا، أولا بسبب صعوبة عمل المرأة، في الفن والغناء خاصة، وثانيا أن الفنانة فوزية تغني مع أخيها، وهي حالة نادرة لتعاون أخ مع أخته في هذا المجال.

وفي الخليج، لم يظهر أي ثنائي مكون من مطرب ومطربة، باستثناء الفنانين سعاد عبد الله وعبد الحسين عبد الرضا اللذين قدما عدة أوبريتات وسكيتشات غنائية ضمن الأعمال الدرامية، لعل أشعرها أوبريت «بساط الفقر».

أما الثنائيات المكونة من ملحن والزوجة مطربة «البعض يشاركها بالغناء أحيانا»، فهناك الكثير منها.. مثل.. عاصي الرحباني وفيروز، محمد سلمان ونجاح سلام، سلوى وجميل العاص، مائدة نزهت وسمير بغدادي، محمد سلطان وفايزة أحمد، حلمي بكر وعليا التونسية، محمد الموجي وأميرة سالم، بليغ حمدي ووردة.

وخفتت ظاهرة الدويتو لعدة سنوات إلا أنها عادت منتصف التسعينات مع أغنية نوال الزغبي ووائل كفوري «مين حبيبي أنا».. ثم اشتدت حمى الثنائيات على مدى العشر سنوات الماضية، فلم يبق مغن أو مغنية، تقريبا، إلا وجرب الدويتو، البعض من باب التنويع والآخر بدافع التقليد.. ابتداء من راغب علامة والبسا، مرورا بسميرة سعيد والشاب مامي، ثم فضيل وأمل حجازي، نوال وفضل شاكر، محمد عبده وأصالة، ديانا حداد وخالد، يارا وراشد الماجد.. كاظم الساهر وأسماء المنور.. والقائمة تطول..

والثنائي هو محاورة غنائية بين طرفين حول موضوع معين «غزل أو عتاب أو شكوى أو ذكريات.. إلخ».. ويتضمن أسئلة وأجوبة وأخذا وردا.. أو يروي حالة حب أو حكاية، فيها بداية ووسط ونهاية ونتيجة..

وهذا ما ميز الأغاني الثنائية القديمة، حيث كانت موظفة لخدمة حدث درامي معين.. وأسلوبها حواري مثل:

هي: تعالا أقولك.. هو: ح تقولي إيه.

هي: لازم أقولك.. هو: وساكته ليه.

أو تتناول مواضيع اجتماعية، واقعية، مثل أغنية جمال وطروب:

من فضلك يا ست البيت جعت وبدي اتغده من فضلك يا سيد البيت إيدك عالجيبي مده وباستثناء بضعة أغان، مثل أغنية كاظم الساهر وأسماء المنور «المحكمة»، فإن الدويتو الحالي يفتقر، في أغلبه، إلى البعد الدرامي، لعدم وجود موضوع أو قضية أو مشكلة يتحاور حولها الطرفان.. ولذا، يبدو أن الهدف من الدويتو الحالي هو دعائي أكثر منه فني، المهم الظهور معا، وكل يغني على ليلاه! وتبقى الثنائيات الغنائية - رغم تفاوت مستوياتها واختلاف أبطالها - تجربة فنية متفردة لا تخلو من تحدٍّ للإمكانيات والظروف.. ومحاولة للتجديد والتنويع وكسر الروتين والنمطية في العملية الفنية «الغنائية».