«عسل إسود» أم أنه «عسل مر»؟!

كوميديا تبكي على حالنا

TT

وأنت تشاهد هذا الفيلم يجب أن تلاحظ المساحة الزمنية التي تتحرك فيها الأحداث، وهي 30 يوما في شهر رمضان بالإضافة إلى أيام العيد.. اختار الكاتب «خالد دياب» توقيت رمضان لنرى من خلاله مصر.. رمضان ليس فقط طقسا دينيا.. إنه طقس مصري بالدرجة الأولى ترى فيه مصر مختلفة.. نشاهد الناس وهم يتعاطون مع الحياة بأسلوب آخر.. هكذا جاء فيلم «عسل إسود».. مصر طعمها جميل برغم ما بها من قبح في سلوك البعض وتلوث الهواء والماء.. كثيرا ما كنت أشعر بخجل في بعض اللقطات والفيلم يقدم المصريين بكل عيوبنا، برغم أن كثيرا مما أراه يشير إلى الحقيقة، ولكننا تعودنا أن نرتكن إلى التنميط، نحتفظ بصورة ذهنية لابن البلد الشهم الشجاع كما كان في الأربعينات، وظلت السينما والدراما التلفزيونية تحتفظ بتلك الصورة الذهنية، وننسى أن الزمن غير الكثير.. تغيرنا أو تغيرت الأغلبية..

أيضا اختار الكاتب جواز السفر الأميركي لدولة صارت تحكم العالم.. ومن المعروف أن عددا من المصريين الأثرياء صاروا يرسلون زوجاتهم للولادة في أميركا للحصول على جواز سفر أميركي طبقا للقانون الذي يمنح الجنسية للمولود هناك، وبعد ذلك من الممكن أن يمنح الطفل الجنسية الأميركية لوالديه، وهكذا تشكل الحماية الأميركية الرسمية نوعا من القوة للإنسان المصري داخل مصر.. ولن أذكر عدد الفنانين ورجال الأعمال والسياسيين الذين أقدموا على ذلك في السنوات الأخيرة، ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن الفيلم يرصد واقعا نلمسه ونعايشه. بدأ الشريط السينمائي والطائرة في الجو وانتهى أيضا في الجو.. البداية كما يقدمها لنا المخرج «خالد مرعي» تبدأ عندما يعود «مصري سيد العربي» إلى أرض مصر، وبالطبع اختيار الاسم يحمل دلالة المصري والعربي معا.. يلتقي في نفس الطائرة على المقعد بجواره مصريا آخر معه جواز السفر الأميركي، ولديه دراية أكثر بما يجري في البلد.

«حلمي» غائب عن مصر 20 عاما، الآن وصل عمره إلى 31 عاما.. الفيلم يتابع قوة جواز السفر الأميركي في مقارنة بجواز السفر المصري الذي يحمله «حلمي»، بمجرد أن يهبط «حلمي» إلى صالة الاستقبال في المطار رافعا جواز سفره المصري تبدأ المعوقات.

شاهدت على النت مشهدا محذوفا في بداية أحداث الفيلم يقدم هذا التناقض بين من يحمل الجوازين، ولكن لظروف أتصور أنها رقابية نرى على الفور أمام صالة العودة السائق «لطفي لبيب» الذي يبحث هو أيضا عن الزبون الأجنبي أوروبي أو عربي من أجل البقشيش بالطبع، ولكن عندما يجد «المصري» الغائب عن مصر كل هذه السنوات «زبون سُقع» يبدأ في مساومته والنصب عليه.. الدولار الذي تجاوز خمسة جنيهات صار فقط بجنيهين.. وساندويتش الفول الذي لم يصل سعره إلى جنيه صار بـ30.. كل شيء فعله «لطفي لبيب» مع الزبون من أجل استغلاله. تستمر إهانة جواز السفر المصري في مصر وكأنه يقول إذا كنا نشعر أن الجنسية المصرية في السفارات الأوروبية مهانة، وحتى تحصل على تأشيرة دخول تدفع الثمن من كرامتك قبل وقتك وأعصابك. فإننا في مصر نفعل ما هو أكثر في تعاملنا مع أصحاب الجنسية المصرية، مثلا الإقامة بالفنادق المعاملة الشخصية تتغير، بمجرد أن تشهر جواز السفر المصري تكتشف الإهانة التي يتلقاها من كل من يقابله، ولهذا يرسل «أحمد حلمي» إلى أحد أصدقائه خطابا عاجلا ليأتي إليه بجواز السفر الأميركي لإنقاذه، ونرى مشهدا مؤثرا عندما يلقي من حجرته بالفندق جواز سفره المصري.

يختار السيناريو نقطة ساخنة وهي مظاهرة ضد أميركا.. بينما اللواء الذي أدى دوره «أحمد راتب» عندما يهدده «حلمي» بجنسيته الأميركية يتركه نهبا للمتظاهرين يفتكون به ويضيع جواز السفر الأميركي.. في كل موقف يضعنا الفيلم أمام الحقيقة التي مع الأسف نعايشها وتؤلمنا، ولكننا نادرا ما نواجه بها أنفسنا، مثلا في الجامع يسرق الحذاء، وفي قسم الشرطة يتم تعذيبه بلا ذنب، في الشارع ممنوع التصوير، حتى عندما يذهب في رحلة إلى الهرم ويعلم صاحب إسطبل الخيل أنه ليس أجنبيا ولا عربيا يمنحه حصانا هزيلا.. كلما أوغل البطل في الاحتكاك بالحياة وجد من يصفعه ويهينه وينال من كرامته أكثر وأكثر، كل شيء صار له ثمن حتى حقوق المواطنة، خذ عندك مثلا هذا المشهد الساخر أمام باب الفندق عندما يشهر جواز السفر الأميركي يكف كلب الشرطة عن النباح في وجهه.

السيناريو في النصف الأول هو أقرب إلى استعراض الفنان الواحد One man show، صحيح أن المساحات التي تواجد فيها «لطفي لبيب» تشع حضورا، ولكنه في أغلب المشاهد يبدو مثل صانع الألعاب يمنح المهاجم الكرة ليودعها المرمى «مقشرة». العائلة المصرية بمشكلاتها تلتحم بالسيناريو في النصف الثاني، عندما يبدأ «حلمي» في البحث في دفاتره القديمة وليس معه سوى مفتاح منزله القديم لنتابع رحلته لنكتشف ما يجري في الطبقة المتوسطة، البطالة والتكدس داخل شقة حجرة وصالة، والتزمت الديني.

أول لمحة توحي بتمسك الطبقة المتوسطة بقيمها هي أنهم يحرسون شقة الغائب، يشعرون بالمسؤولية، وهكذا يرفع ابن الجيران «إدوارد» بالعصا ينهال بها على «أحمد حلمي» معتقدا أنه حرامي يحاول اقتحام شقة الغائب، ويبدأ الفيلم في تفجير أكثر من محور، أولها الرشاوى التي تدفع لاستخراج أي ورقة، والتي صار اسمها الحركي «رشا»، ثم الزوج والزوجة مع إيقاف التنفيذ من خلال العلاقة بين شقيقة «إدوارد» وزوجها، وكيف تحولا من زوجين إلى مجرد خطيبين لا يتمكنان من الانفراد لأخذ حقوقهما الطبيعية. هناك أيضا البطالة التي يعاني منها «إدوارد»، ونكتشف أنه لا يزال يحصل على مصروفه من أمه حتى الآن.

لم نعرف الكثير عن «حلمي»، كان ينبغي أن يقدم لنا السيناريو معلومات عن دراسته وعمله في أميركا. نعم هو يستقل الدرجة الأولى في الطائرة، وينفق بسخاء، مما يؤكد على أنه حقق ثروة طائلة هناك، ولكن 20 عاما كان ينبغي أن يكتنفها بعض مشاهد تقدم لنا ما حدث طوال تلك السنوات، فما نعرفه فقط أنه يمارس هواية التصوير.

التلفزيون يشكل في البيت المصري طوال شهر رمضان قوة لا يستهان بها، لم نشاهد هذه الحالة من التجمع الأسري في رمضان، رغم أنه مهد لها في المشاهد الأولى قبل هبوط الطائرة عندما سأل «حلمي» جاره عن فوازير «نيللي»، بينما على المقابل منح السيناريو مساحات لمائدة الرحمن، وهي ظاهرة مصرية رمضانية، ولكن التلفزيون ملمح اجتماعي هام غفله تماما. صواني الكحك في العيد ظاهرة اختفت اجتماعيا، ولكن لا بأس من تقديمها كطقس لا يزال البعض يحرص على ممارسته.

نقش العروسة على صينية الفرن، العيدية، تناول الفسيخ والملوحة في العيد، مفردات قدمها السيناريو الذي انتقد أيضا انهيار التعليم من خلال شخصية مدرسة اللغة الإنجليزية التي لعبتها «إيمي سمير غانم».. كان مشهدا مؤثرا عندما طلب «حلمي» من الطفل ابن الجيران أن يحضر له زجاجة مياه معدنية بسبب خوفه من تلوث ماء الحنفية، ولكن الطفل يضع ماء الحنفية بدلا من شراء المياه المعدنية.. كذب الطفل أفزعني، ولكن السيناريو وجد حلا دراميا لكي يحدث نوعا من التوازن عندما يؤكد له الطفل في نهاية الفيلم ويعترف بأنه تعمد ذلك حتى يعود لمصر، لأن الحكمة القديمة تقول إن من يشرب من ماء النيل يعود مرة أخرى إلى مصر.

الفيلم تتخلله أغنيات في حب مصر بصوت «نانسي عجرم» و«شيرين» وتنتهي أحداثه بصوت «ريهام عبد الحكيم» وهي تغني لمصر. هناك تعمد به قدر لا ينكر من المباشرة في الحوار الذي نراه بين «يوسف داود» و«أحمد حلمي» يحمل دعوة لحب مصر التي نراها ليست أفضل بلد في العالم، ولكننا نحبها كما هي.. تعمد السيناريو تقديم مظاهر اختفاء النظافة من الشارع.. حتى البعض يقضي حاجته على الرصيف، كلها ظواهر نراها أمامنا، وهي لا تعني إهانة للمجتمع، ولكن للنظام الذي لم يوفر أماكن لإلقاء الزبالة، ولا دورات مياه كما هي منتشرة في الكثير من دول العالم.

أحببت في الفيلم جرأته الاجتماعية في التناول، وتأتي النهاية وهي تحمل في عمقها رغبة في تأكيد أن البطل حريص على أن يكمل مسيرته في مصر، أيضا مستغلا جواز السفر الأميركي الذي لم تستطع شركة الطيران المصرية إلا أن تستجيب لرغبة الراكب الذي يحمل جواز السفر الأميركي في العودة لأرض مصر بحجة إصابته بمشكلات صحية، رغم أنه كان قبل أن يسافر قد ساهم في حل مشكلات العائلة.. وهكذا تأتي النهاية و«حلمي» متمسك بالعودة إلى مصر وكأنه يردد قول الشاعر «بلدي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام».

مرثية في حب مصر التي كانت في الماضي، وتغيرت بأيدي المصريين في الكثير من جوانبها.. نادرا ما يقترن الذكاء بالموهبة بالمسؤولية، هكذا أرى «أحمد حلمي» الذي لا يتخلى أبدا عن الصدارة في الإيرادات، ولكنه أيضا بنفس القدر يستطيع أن يراهن على القيمة الإبداعية.. أداؤه لدور البطل المصري وهو يحاول أن يغير من مفرداته اللغوية والشخصية بالسلوك واللهجة التي يتخللها قدر من الصعوبة في نطق بعض الكلمات المصرية التي تستعصي على الآخرين.. انتقاله بين القوة والضعف في تعامله مع «لطفي لبيب» وإن كنت لم أرتح إلى أسلوب التحول مباشرة إلى لعبة «العبد والسيد» كلما تغيرت موازين القوى بينهما تغيرت لغة التخاطب، كان من الممكن أن يكتفي بتغيير السلوك وطبيعته بين الطرفين.. «لطفي لبيب» ساحر الأداء الكوميدي، خفيف الظل، ويتمتع بدرجة من الصفاء الإبداعي تنعكس على مشاهده.. «إدوارد» نجح في دوره الذي يشعرك بأنه لا يمثل، وإن كنت أرى أن الدور نفسه ليس به منعطفات ومتغيرات تفجر طاقة «إدوارد».

الوجه الجديد «طارق الأمير» اختيار جيد من المخرج «خالد مرعي» في منحه هذا الدور الذي تتوافق ملامحه الشكلية مع طبيعة أدائه المتزمت المطحون المحروم من ممارسة حقوقه الزوجية. «إيمي سمير غانم» نفذت من ثقب إبرة.. الدور صغير جدا في عدد مشاهده، لكنها موهوبة بلا شك وقادرة على أن تتقدم خطوات أبعد وأجمل وأروع.. «إنعام سالوسة» تغيبت عن السينما كثيرا، وعندما تعود تترك بصمة لا تنسى.. من الإضافات الإبداعية موسيقى «عمر خيرت» ومونتاج المخرج «خالد مرعي» ديكور «محمد أمين» تصوير «سامح سليم».

هذا هو الفيلم الثالث لخالد مرعي بعد «تيمور وشفيقة» و«آسف على الإزعاج».. قدرة على ضبط الأداء لممثليه، والتكوين الدرامي، والانتقال بين اللقطات، وخلق جو عام للعمل الفني.. فيلم «عسل إسود» درس من نجم كوميدي يدرك أن الضحك والجرأة والقيمة الفكرية من الممكن أن تمتزج معا وتقدم لنا كوميديا لها طعم العسل المر حتى ولو كانت تحمل عنوان «عسل إسود»!! [email protected]