«الكبار» فيلم سينمائي عجوز!!

سيناريو من «الديب فريزر» إلى دور العرض

TT

اللغة السينمائية تتجدد مثل كل شيء في الحياة ينبغي أن يخضع لقانون التطور.. لا أتحدث عن التقنيات مثل «الدولبي»، والأبعاد الثلاثية، و«الكومبيوتر غرافيك»، وغيرها من مستحدثات العصر، ولكن أسلوب السرد السينمائي أيضا يتطور. إنه يشكل مفردات التخاطب بين المخرج والمتفرج، ولهذا في بدايات السينما مثلا عندما كان يذهب البطل للسفر، كان ينبغي أن يراه الجمهور في الطائرة، وقبلها وهو في المطار، بعد ذلك صار المتفرج يكتفي فقط بلقطة له في الدولة الأخرى ليكمل هو باقي التفاصيل. ولهذا، عندما نشاهد فيلما سينمائيا قديما نجد أنفسنا، لا شعوريا، نعود سنوات إلى زمن إنتاج الفيلم.

وهكذا، قد نغفر تتابعا بين اللقطات نرى فيه معلومة درامية تتكرر أكثر من مرة، أو لقطات تفصيلية نستطيع الاستغناء عنها، أو نتابع أداء ممثل يفتقد الطبيعية، أو حبكة درامية مستهلكة، ولكن لا يمكن أن نغفر ذلك لفيلم جديد أو لمخرج جديد نشاهد أول أعماله الدرامية. السينما مثل كل الفنون ينبغي أن تخضع لرؤية عصرية، حتى لو كانت تتناول زمنا قديما.

استطاع مؤخرا أن يلحق بأفلام الصيف في السينما المصرية فيلم «الكبار» للمخرج الشاب محمد العدل في أول تجربة له. الفيلم للكاتب المخضرم بشير الديك. ولقاء الكاتب الكبير مع مخرج جديد أراه أحد أهم أسباب استمرار صناعة السينما، إنه التلاقح بين الأجيال، هكذا مثلا نشاهد الكاتب الكبير وحيد حامد يتعاون مع الجيل الجديد من المخرجين مثل محمد ياسين، ومروان حامد، ومحمد علي. أيضا المخرج الكبير محمد خان يقدم أكثر من سيناريو للكاتبة الشابة وسام سليمان.

لكن الشرط الوحيد للنجاح في هذا التلاقي هو أن يخضع لفكر هذا الزمن.. أن نرى إيقاعا ورؤية عصرية درامية وبصرية. الكاتب بشير الديك له عدد من الأفلام التي دخلت تاريخ السينما المصرية والعربية أذكر منها «سواق الأتوبيس»، و«الحريف»، و«طائر على الطريق»، و«ليلة ساخنة»، و«ضد الحكومة»، و«النمر الأسود»، و«أيام الغضب». كان «بشير» أحد الأضلاع الهامة والمؤثرة في ما كان يعرف بـ«سينما الواقعية السحرية» في مصر، وكان من رموزها مع بشير كل من عاطف الطيب، وخيري بشارة، ومحمد خان، وداود عبد السيد. بشير لم يكتف فقط بالكتابة، ولكنه أيضا أخرج فيلمين؛ هما «الطوفان» و«سكة سفر».

إلا أنه قبل نحو 10 سنوات غاب جيل كامل من نجوم المخرجين والكتاب، وكان بشير أحد هؤلاء الغائبين واتجه مثل الآخرين للتلفزيون، عندما وجدوا أنه يمنحهم حق اللجوء الفني، ثم عاد للسينما. وطوال السنوات الأخيرة صار لا يخلو شهر رمضان من مسلسل يكتبه بشير الذي كون «دويتو» مع المخرج السينمائي نادر جلال، الذي اتجه هو أيضا للتلفزيون بعد أن كان بين الاثنين ثنائي، وقدما عددا من الأفلام التجارية لنادية الجندي.

لا شك أن سيناريو فيلم «الكبار» تجد فيه هذا الإحساس كتركيبة درامية وبناء شخصيات وكأنه فيلم يخرج من «الديب فريزر» بعد أن تم تجميده سنوات.. صحيح أن أبطال الفيلم عمرو سعد، وزينة، وخالد الصاوي، ومحمود عبد المغني، هم نجوم هذه الأيام، إلا أن الفيلم، ومنذ اللحظات الأولى التي يطل علينا فيها بطل الفيلم عمرو سعد، نراه وكأنه فيلم قديم خرج من درج المكتب بعد أن ظل سنوات غير قادر على التنفس!! يؤدي عمرو دور وكيل نيابة يشعر بالذنب لأنه أدان بريئا تعرض لحبل المشنقة.. حاول إنقاذه، وجاء بالفعل بقرار من النائب العام لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن توفرت لديه أدلة للبراءة، ولكن عشماوي كان قد سبقه.. ويتحول مشهد الإعدام إلى كابوس لا يغادره في أحلامه أو يقظته. بالطبع هذا المشهد شاهدته من قبل في عشرات من الأفلام المحلية والعالمية، ولكن لا بأس لو أن لدى كاتب الفيلم بشير الديك ومخرجه محمد العدل إحساسا طازجا يريدان توصيله للناس، ولكن شيئا من هذا لم يحدث.

وكيل النيابة استقال من سلك القضاء ليصبح محاميا بعد أن ظل إحساس الذنب يطارده، وبدأ في تتبع قصة طفل تقتله عربة مسرعة يقودها أحد الأثرياء.. يترافع المحامي، إلا أنه يكتشف تغيير كل الأدلة التي تدين هذا الثري عندما تراجع الجميع عن موقفهم، حتى أهل الطفل لم يستطيعوا الصمود، ويتم تكييف القضية لصالح الأثرياء. وحتى أسرة الطفل، نشعر بأنهم خضعوا للتهديد. المحامي ينشد العدالة، ولا يزال إحساسه بالذنب يؤرقه، فهو تسبب في قتل بريء؛ صحيح أنه يساعد أسرة الضحية الذي تم شنقه، وهما زينة وأمها صفاء الطوخي، في الحصول على شقة، ولكن زينة تنحرف لكي تستطيع أن توفر لنفسها ولأمها الكفيفة الحدود الدنيا من الحياة. ولهذا، فإنه قبل نهاية الأحداث، وعلى طريقة كل الأفلام المصرية القديمة، يطلب منها الزواج.

بداية دخول الأحداث لمنطقة ساخنة هي تلك التي نرى فيها مجموعة ما يسمى بالعائلة.. إنهم أصحاب المصالح الذين يملكون البلد.. نرى شخصية الأب الروحي المسيطر خالد الصاوي، الذي أضاف بعض لمحات للشخصية، مثل حالة الطفولة التي تنتابه في علاقاته بمن يعملون معه، وأيضا علاقته بالأشياء الصغيرة التي يسعده اللعب بها مثل زمارة قديمة، أو سلوك طفولي، لا يغادره وهو يلقي التورتة في اتجاه من يعملون لديه.

عمرو سعد هو المحامي الذي يساندهم في لعبهم وليس لديه حل آخر بعد أن فشل وأصيب بالإحباط، ولكن من يقترب ويدخل إلى هذه الدائرة لا يحق له الخروج منها.. وهكذا يصبح دوره أن يرشو القاضي للحصول على حكم براءة، ويقبل بالفعل القاضي الذي أدى دوره سامي العدل الرشوة ثم يطلق الرصاص على نفسه.

وتأتي النهاية تقليدية جدا بطلقة رصاص من عمرو سعد ينهي بها حياة خالد الصاوي وينهي بها أيضا الفيلم.. بين المشنقة في البداية وطلقة النهاية تضيع الروح السينمائية؛ كان المخرج محمد العدل، الذي شاهدت عددا من أفلامه القصيرة، قادرا على أن يقدم حالة خاصة في فيلمه، ولو أنه أمسك بقصة العائلة فقط ونسج عليها فيلمه، لكان لهذا الفيلم وقع وترديد لما يجري على أرض الواقع، حيث يشعر الناس بأن أصحاب السلطة وعددا من رجال السياسة يمسكون بمقاليد البلد. لكنه لم يملك تلك الرؤية التي ترنو للجديد، وظلت لدى المخرج الجديد عين قديمة في الرؤية، واستسلم للسيناريو العجوز، ولم يلتقط دائرة العائلة التي كان من الممكن أن تصبح بالنسبة له نقطة انطلاق لفيلم سينمائي طموح.

عمرو سعد شاهدته في أدوار صغيرة من قبل، حتى جاءته القفزة الأخيرة مع المخرج خالد يوسف في فيلمي «حين ميسرة» ثم «دكان شحاتة». البطولة في الفيلمين للمخرج خالد يوسف، صحيح أن أداء عمرو كان لافتا، ولكن الجمهور جاء للمخرج صانع الفيلم الذي امتلك قدرا من الجاذبية وليس لأسماء النجوم. وهي من المرات التي صارت قليلة في السينما المصرية عندما نرى فيلما يحمل جاذبيته الخاصة ويقطع الناس التذكرة للفيلم وليس للنجومية.

هذه المرة، عمرو سعد هو البطل المطلق، واسمه يسبق أيضا عنوان الفيلم وبجواره صديق البطل الذي أدى دوره محمود عبد المغني، بكل ما تحمله هذه الكلمة من ملامح تقليدية، فهو لا يفعل شيئا سوى أنه يسعى لإرضاء البطل.. وأيضا بطلة فقيرة (زينة) وأمها ضريرة، تعمل فتاة ليل لكي تكسب رزقها. البطل التقليدي لا يمكن أن يكون هو بداية التعاقد بين عمرو سعد والسينما كنجم شباك كما يتمنى.

ربما الوحيد الذي أفلت من كل تلك التقليدية وأشعرني بأنه يحاول أن يضيف تفاصيل من عنده هو خالد الصاوي؛ فلقد كان هو الوحيد الذي منح شخصيته ملمحا خاصا عصريا، بينما استسلم عمرو سعد للحالة العجوز التي ارتبطت بالفيلم والشخصية.

محمد العدل شاهدت له من قبل عددا من أفلامه القصيرة؛ كان فيها لافتا، لكنه في فيلمه الروائي الأول لم يستطع أن يمنح الشاشة أي ملمح عصري..

«الكبار» فيلم يخلو من روح السينما. صحيح أنه جاد، ولكن من قال إن الجدية وحدها تكفي لصناعة فيلم سينمائي؟! [email protected]