تونس: الجمهور يهدد «عرش» الفنانين

أصبح الحلقة الأقوى في مهرجان الصيف والمدينة

مشهد لجمهور المسرح الأثري في قرطاج هذا العام («الشرق الأوسط»)
TT

الجمهور يستاء من أوديسا.. وينتشي مع «فانديتا». أوديسا ترقص الحضور على أنغام الآذان.. والجمهور يقذفها بالقوارير. الشباب يرقص مع حرباء بن جمعة. قوارير ماء «خاصة» للجمهور في عرض «موزيكة» للتونسي مقداد السهيلي. لا جديد لماجدة الرومي ولكن قصة الحب مع الجمهور متواصلة. نجحت سهرة أماني السويسي والجمهور تخمر مع الكوكتيل التونسي.. والجمهور يطالب بالأغاني التونسية. في مسرحية «غلطة مطبعية» إيحاءات جنسية بالجملة استنكرها البعض. ما ذكر هو عينة لعناوين التغطيات الصحافية التونسية لمختلف سهرات المهرجانات الصيفية التي تكاد تكون منتشرة في كل ركن من أركان تونس، ولكن كلمة السر أو كلمة عبور الجميع هو الجمهور، فقد حظي بسلطة خفية وبإمكانه أن «يعاقب» أي فنان مهما علا كعبه، كما أن له القدرة العجيبة على صنع النجوم، وبات اليوم يهدد عرش بعض الفنانين النجوم باعتبار أن عبارة «الشباك» هي التي تتحكم اليوم في كل العروض الفنية التونسية أو الأجنبية، ومن يوفر أرباحا لمهرجان ما فقد اجتاز الامتحان بحضور الجمهور، ومن ترك فراغا في الميزانية فإن كل الأصوات ستقذف في وجهه دفعة واحدة وعليه أن يتقرب من الجمهور عبر وسائل الإعلام الأخرى من تلفزيون وإذاعة وصحف، حتى يجد درجة القبول لدى الجماهير العريضة.

البعض من الفنانين أصبحت لهم عادة عقد ندوة صحافية قبيل انطلاق عرضه الفني، وفي ذلك دعوة خفية إلى الجمهور واستلطاف منه لتلك الأعداد الغفيرة من الناس القادمة للفرجة والمتعة والمحاسبة والتقييم كذلك.

هذه الحيرة في تصنيف الجمهور أصابت الكثير من متابعي المشهد الثقافي في تونس، فالجمهور أصبح طرفا مهما في معادلة الفرجة وبإمكانه أن يحكم على أي عرض فني بالنجاح التام أو كذلك بالفشل الذريع.

الجزائري الشاب خالد ملك موسيقى «الراي» سبق الجميع إلى فهم جزء من تلك العلاقة، فصرح لإحدى الصحف التونسية في فترة سابقة قائلا: «الفنان يطير بأجنحة الجمهور.. بعض الفنانين كتبوا أغاني خاصة لتونس وربما تكون صالحة لكل البلدان العربية، ويكفي للغرض تغيير اسم البلد فحسب، والحذر كل الحذر من أن يخطئ في التسمية.. والبعض الآخر يمد الميكروفون للجمهور ويدعوه إلى الغناء بدلا منه.. وبعض الفنانين يكونون مستعدين للتمدد فوق المسرح على غرار ما فعلت الفنانة التونسية أمينة فاخت على مسرح مهرجان قرطاج ومهرجان بوقرنين بحمام الأنف (الضاحية الجنوبية للعاصمة)، وذلك ربما تقربا من الجمهور وخوفا منه، وربما كذلك فهما لجزء من ذلك الجمهور الثائر على كل الأعراف والباحث عن الاختلاف، وبعض الفنانين ممن قدموا لأول مرة إلى المهرجانات التونسية يعلقون بأن (الجمهور التونسي ذواق)، والبعض الآخر ممن خلقتهم الصدفة لا غير، يتوجهون إلى الشباب فيعبرون بشكل رومانسي عن مشكلاته وما يشغله، وهو ما يجعل التناغم بين الفنان والجمهور أكثر من ملحوظ.

بعض المتابعين يفسرون ذلك بتفشي ثقافة الاستعراض السائدة، وسيطرة قنوات الاتصال على الجمهور ومصادرتها جل أحاسيسه، كما أن الجمهور الذي تسيل دموعه مع الوافدين الجدد من الفنانين على الرغم من خلو رصيدهم من الفن الجيد يفسره البعض بالإرادة القوية من المحيط لفرض النموذج الجديد من أساليب النجاح السريع الذي يحبذه الجيل الجديد ويسعى إلى تحقيقه بكل الطرق فيتمثله في نجاح الفنان في وقت قياسي».

لهذه الأسباب وغيرها علقت الناقدة الثقافية، ناجية السميري، قائلة: «الجمهور أمره غريب.. تابعنا سهرات مهرجان قرطاج فتجد الوجوه نفسها تقريبا وبنفس الاندفاع تقبل على سهرات مختلفة إلى حد التناقض، حتى أن الحيرة تتملك الجميع ولا يقدر بالفعل على فهم ظاهرة الجمهور الوافد على المهرجانات.. فهو خلطة عجيبة لا تحكمها إلا القليل من النواميس».

وتضيف السميري: «للمهرجانات الصيفية جمهورها، ولمهرجان المدينة الذي يتواصل خلال شهر رمضان جمهور مختلف تمام الاختلاف عن جمهور الصيف، كما أن تقييمه الأعمال الإبداعية بعيد كل البعد عما نراه خلال الصيف. فقسم من الجمهور يدخل كل العروض دون استثناء ويحضر العروض الموسيقية التي قد لا تكلفه نفس ما تكلفه سهرة على شواطئ البحر، وقسم آخر جاء ليستمتع بالفعل بالعروض الموسيقية، يصفق حيث يكون التصفيق ويصمت حيث يكون الصمت ضروريا، ويصفر ضد الفنان إذا ما تطلب الوضع ذلك، ومع ذلك يبقى جمهور المهرجانات يغني ويرقص ويستمع ويعطي لكل مقام مقاله وقد لا يخطئ إلا فيما قل وندر، والجمهور يعطي لكل فنان حجمه الحقيقي فعندما فرض الفرنسي شارل ازنافور عدم وقوف الجمهور أثناء حفله في السنة الماضية على مسرح قرطاج، لبى الجميع رغبة الفنان. ولكن هذا الجمهور عندما رقص على أغاني مارسيل خليفة في مسرح قرطاج نفسه على الأغاني الملتزمة أمره الفنان أن ينتهي عن ذلك وهدده بإنهاء الحفل فرجع الالتزام إلى المدارج».

وحول ظاهرة جمهور المهرجانات قالت منيرة الرزقي (مختصة في علم الاجتماع) لعله من الصعوبة بمكان تصنيف جمهور المهرجانات أو إخضاعه لمقاييس علمية صارمة، فهو جمهور متعدد متلون يحدث المفاجأة على الدوام، وهو مكون من كل الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية، وهو يحضر بكثافة ويتفاعل بحيوية مطلقة مع أنماط فنية مختلفة إلى حد التضارب والتناقض ويردد كل الأجناس الغنائية من الكلاسيكي إلى العصري والغربي والشرقي والمحلي، ويؤدي تلك الأغاني بأسلوب يبهر الفنانين الضيوف لكنه يتغيب أحيانا عن حفلات يعتقد أنه سيقبل عليها بكثافة منقطعة النظير، وهو بذلك يلعب دور الحكم والفيصل بين الفنانين وقد يحكم على بعض الفنانين بإنهاء المسيرة الفنية أو تغييرها، فالبعض جلبته المظاهر الاجتماعية وحب الاطلاع، والبعض الآخر جاء هربا من ضغط الشارع وضغط العائلة، وقسم آخر من الجمهور يعيش في حقيقة الأمر زمنا غير زمنه وهو متشبث بالحياة أكثر من اللازم، وتمكن من مواكبة العصر وحرق المراحل بصفة رجعية وهو اليوم يحفظ الأغاني الخفيفة وينسى أو يتناسى زمن الفن الجميل، وهي مسألة تستعصي على الفهم وتتطلب الكثير من الدراسات العلمية.