«ولد وبنت».. وسينما تتحدى النجوم

TT

قبل أربع سنوات عُرض فيلم «أوقات فراغ»، أحدث هذا الفيلم نقلة نوعية في طبيعة إنتاج الأفلام السينمائية في مصر، لأنه لم يستعن بأي من النجوم المعروفين، بل لعب بطولته عدد من الوجوه الجديدة التي رآها الناس على الشاشة الفضية لأول مرة. القضية التي كان يتناولها الفيلم هي المأزق الذي يعيشه هذا الجيل في البحث عن حريته في الاختيار، حيث شاهدنا ممثلين لم يتخطوا بعد العشرين من عمرهم يعبرون عن أحاسيسهم من دون ادعاء. كما أن الحوار كان به قدر لا يُنكر مما يمكن أن نطلق عليه بأسلوب هذه الأيام «روشنة». صدَّق الناس هذا الفيلم، وحقق نجاحا رقميا في شباك التذاكر، أسفر، وكالعادة، عن عدوى التقليد، وظهر بعده أكثر من 15 فيلما بميزانيات ضئيلة، ويلعب بطولتها أيضا وجوه جديدة، حيث اعتقد وقتها السينمائيون أن النجاح يكمن فقط في الوجوه الجديدة، فإن المحصلة النهائية هي أن كل هذه الأفلام، التي تعتبر بمثابة توابع زلزال «أوقات فراغ»، عانت من هبوط حاد في الإيرادات، وصار أغلبها جزءا من صفقات لمحطات تلفزيونية سينمائية يتم إنتاجها عن طريق مساهمة هذه القنوات في دعم المنتج ماديا، مقابل الحصول على نسخة تملأ مساحة على الشاشة.

لم يكن الفيصل هو الجودة، بقدر ما كان مجرد ملء فراغ الشاشة الصغيرة. التجارب المتلاحقة في هذا الاتجاه أغلبها باء بالفشل التجاري والفني؛ لأن شركات الإنتاج لم يكن يعنيها ما يحتويه الشريط السينمائي، المهم بالنسبة لها أن هناك ساعتين من الدراما السينمائية تعرضهما قناة تلفزيونية متخصصة في عرض الأفلام. وهكذا ماتت بدايات الثورة أو التمرد، التي دشنها فيلم «أوقات فراغ»، ولم يسلم من الفشل حتى تلك الأفلام التي استعانوا فيها بالأبطال الجدد أنفسهم لـ«أوقات فراغ»، ماتت أيضا، باستثناء محاولة يتيمة ربما لفيلم «ورقة شفرة»، كان بها إرهاصة، ولكنها لم تكتمل في هذا الاتجاه. مؤخرا في إطار ما اصطلح على تسميته أفلام الصيف، عُرض فيلم «ولد وبنت»، أول إخراج لكريم العدل، وهو واحد من آخر العنقود الذي قدمته عائلة «العدل» للسينما، لأن كل الجيل السابق من هذه العائلة تقريبا مارس التمثيل والإنتاج والتوزيع والتأليف.

وفي هذا الصيف فقط شاهدنا فيلما لمحمد العدل، وهو «الكبار»، سبق أن تناولته بالتحليل قبل أسبوعين في هذه المساحة، والآن يعرض فيلم «ولد وبنت» لابن عمه (كريم العدل). الفيلم تأليف علا عز الدين، وهي أيضا كاتبة جديدة لم تقدم سوى سيناريو فيلم «تلك الأيام» عن قصة فتحي غانم. يتناول هذا الفيلم حكاية «ولد وبنت»، التي من الممكن أن نعتبرها حكاية تصلح لكل امرأة ورجل. لم يخضع الفيلم لتلك الحالة التي صارت تشكل نسبة 90 في المائة من أفلام السينما المصرية، وهي مشكلة البطالة، صحيح أننا نراها في الخلفية كمحرك ثانوي للأحداث، ولكن المحور الأساسي الذي ارتكن إليه هذا السيناريو هو تلك الحالة العاطفية بين الرجل والمرأة، ولهذا يبدأ الفيلم بمشهد لعلاقة ملتبسة بين رجل وامرأة، نكتشف من تبادل النظرات، وقبل ذلك من محاولة الهروب من تبادل النظرات، أن بينهما حكاية، ثم تتقطع السبل بينهما، وينتهي الفيلم بعناق بين الرجل والمرأة، مما يضع احتمالا بأن تكتمل الحكاية بينهما مرة أخرى!! العلاقة بين شاب (أحمد داود) وفتاة (ريم حسن) بدأت منذ الطفولة، وكبرت بينهما الأحلام. والد الفتاة أديب كبير يؤدي دوره سامي العدل، وهو في منزله يعامل زوجته بقدر من السادية، بينما في قصصه يقدم دائما وجها رومانسيا في تناول تلك العلاقة. يضع السيناريو خطا يشير إلى هذا التناقض بين ما يكتبه وما يمارسه بالفعل في حياته. على الجانب الآخر، أحمد داود والده مثل الملايين من الطبقة المتوسطة، يذهب لدولة خليجية للعمل من أجل توفير الحد الأدنى للأسرة، وكالعادة لا يزيد الأمر عن أمنيات لحل مشكلة تلك الأسرة، وهي مثل أغلب أحلام أفراد الطبقة المتوسطة، حيث لديهم تطلعات مشروعة لحياة أفضل. يموت الأب (سامي العدل)، ويتفجر المأزق لدى الابنة، فهي بقدر ما كانت تحبه، بل ترفض حتى الاعتراف برحيله، بقدر ما أدى ذلك إلى أن تصاب بعقدة نفسية تجاه الرجال، بسبب تلك العلاقة الملتبسة بين أمها وأبيها، فكانت ترفض أسلوبه في التعامل معها، وهذا ما يؤدي إلى توتر علاقتها مع الرجل الذي تحبه، وأيضا مع الأم التي رضخت لكل ما يفرضه عليها الأب.

تتأزم العلاقة بين «مريم» و«داود»، يسافر هو للعمل في أحد المنتجعات السياحية الجديدة في مصر، ويصبح مديرا مسؤولا، بينما هي تسافر للخارج لاستكمال دراستها، وفي الوقت نفسه عندما تعود لمصر تعمل كموديل، وتتعرف على أديب شاب يؤدي دوره هاني عادل. وفي لحظة انتقام من أحمد داود تتزوج من هذا الأديب، وتكتشف أنها أخطأت في علاقتها به، لنصل إلى نقطة البدء مع أحمد داود في اللقطة الأخيرة وهي تحتضنه! أراد السيناريو أن يقدم تنويعات على الأحاسيس العاطفية، من خلال صديقة البطلة، التي أدت دورها آية حميدة، حيث نكتشف أنها تخفي مشاعر إيجابية تجاه أحمد داود، واضطرت لكبتها في الماضي بسبب تلك العلاقة التي تربطها بصديقتها، لكنها في لحظات الخلاف بينهما لا تجد بأسا من أن تؤكد له حبها.

السيناريو الذي كتبته علا كان يحتاج إلى درجة أعلى من التعمق في فكرة «ولد وبنت»، وكأنه ترديد لعلاقة آدم وحواء، لنرى تنويعات درامية فرعية أكثر تتخلل هذا الفيلم، ولكن الفكرة التي كانت تحتاج إلى إطار عام تتحرك خلاله صارت تبتعد عن هذه اللمحات، وخانت الكاتبة لماحية الفكرة، بالإضافة إلى أنها لجأت للحلول السريعة غير المكلفة فكريا، التي تدل على تضاؤل النضج والإخلاص الحقيقي للمشروع السينمائي، مثل أن يصعد الشاب لاعتلاء منصب المدير، ثم يبدأ في مشروعه الخاص بلا موهبة استثنائية تتيح له كل ذلك. كما أنها كان ينبغي أن تؤكد في بداية الفيلم على ردود فعل هذه الطفلة عندما ترى أباها وهو لديه كل هذه التناقضات، وهذا تحديدا ما لم تستطع الكاتبة أن تصل إليه، كما كان ينبغي أن يطرح السيناريو منذ البداية فكرة التنويعات الدرامية على العلاقة بين الرجل والمرأة. كانت الثرثرة الدرامية المجانية، خاصة في النصف الثاني، هي الخطأ الأساسي في هذا الفيلم، ولم يستطع المخرج أن يكثف تلك الحالة دراميا، وهذا بالتأكيد مسؤوليته. ولكن يبقى أننا بصدد مخرج يحاول أن يقدم رؤية عصرية في اختياره لتتابع اللقطات وزاوية الرؤية، كما أنه يمنح ممثليه مساحات من المعايشة الدرامية في فن الأداء، ولهذا يلجأ إلى اللقطة الطويلة، وهذا نجده مثلا في مدرسة المخرجين الكبيرين الراحلين (حسن الإمام) و(يوسف شاهين)، عندما يعتمدان على قدرات الممثلين في التعبير. المخرج، كريم العدل، أجاد أيضا قيادة بطليه الجديدين لأول مرة أمام الكاميرا (مريم حسن) و(أحمد داود)، وهما يتمتعان بموهبة تلقائية وقدر من الطزاجة في التعبير، مع خفوت صوت الصنعة تماما، كما أنهما نجحا في تكثيف التعبير. الفيلم أيضا يقف على الجانب الآخر مما دأبنا على وصفه بالسينما النظيفة، على الرغم من أن المخرج لم يقدم أي مشاهد تحمل إثارة جنسية، فإنه أيضا لا ينتمي إلى تلك المدرسة التي صارت تشكل قسطا وافرا مما تنتجه الآن السينما المصرية!! غاب السيناريو، واستسلم المخرج أيضا لتلك الحالة من تهميش الشخصيات بجوار البطل والبطلة، حيث صارت مثلا سوسن بدر، التي لعبت دور أم مريم حسن، مجرد ممثلة تلعب دور أم، ولكن بلا ملامح درامية حقيقية، كما أنه لم يقدم أي لقطة توحي بأن آية حميدة تحب أحمد داود من طرف واحد، حتى جاءت المفاجأة قرب نهاية الأحداث. ولكنها تظل تجربة مختلفة بقدر ما عن السائد، قدمت وجهين جديدين أتصور أن الفرصة سوف تصبح مواتية لهما في أعمال أخرى، ومخرجا أنتظر منه الأفضل في الأفلام المقبلة، كما أن هاني عادل، واضع الموسيقى التصويرية، قدم رؤية إبداعية موازية للصورة.

الاستعانة بوجوه جديدة قد يراها البعض فرصة لتوفير النفقات، حيث إن النجوم يحصلون عادة على النصيب الأكبر من ميزانيات الأفلام، ويصل أحيانا إلى التهام 75 في المائة من الميزانية، ولكن مع الوجوه الجديدة، فإن ميزانية الفيلم تتوجه إلى العناصر الفنية الأخرى. كما أن العمل الفني يتخلص من سطوة وسيطرة النجوم على مفرداته. حيث نرى أننا بصدد فيلم للمخرج، وليس فيلما منسوبا لنجومه، فإن كل ذلك لا يكفي لتقديم عمل فني جيد، لأنه يظل بحاجة إلى عين مخرج لديه رؤية إبداعية.. ولقد شاهدت بدايات هذا المخرج مع كريم العدل، على الرغم من عدم اكتمال ونضج التجربة! [email protected]