الأفلام المستقلة أنقذت وجه السينما المصرية

من شطحات النجوم إلى ومضات المخرجين

خالد أبو النجا بطل فيلم «ميكروفون» («الشرق الأوسط»)
TT

يبدأ يوم الأحد القادم عرض الأفلام المصرية التي تشارك رسميا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تباعا وهي «ميكروفون»، «الطريق الدائري»، «شوق»، والفيلم الأخير يمثل مصر داخل المسابقة الرسمية والفيلمان الآخران ففي المسابقة العربية والأفلام الثلاثة تقع في إطار السينما محدودة التكاليف وينطبق عليها تعريف صار ملتبسا وهو «السينما المستقلة» وهي سينما لم يستقر بعد مدلول لفظي عليها ولهذا سوف نعتبر أن هذا هو التوصيف الحالي أو المؤقت لها وبالطبع فإن كلمة «مستقلة» تاريخيا تعبير أطلق على الأفلام التي ظهرت في أميركا منذ الثلاثينات وهي خارج إطار شركات هوليوود الضخمة الإنتاج التي تعتمد على الميزانيات الكبيرة وتسند البطولة لكبار النجوم الذين تقطع من أجلهم تذاكر الدخول للسينما وتحقق أيضا بالتالي هذه الأفلام أعلى الإيرادات وهكذا بدأت هذه السينما المستقلة في أميركا كنوع من الاحتجاج الفني على تلك الأفلام فجاءت هذه الأفلام موازية لها وليست بديلا عنها.. أما في مصر فإن هذه الأفلام لم نعرفها إلا قبل 4 سنوات فقط وكانت البداية مع المخرج إبراهيم بطوط بفيلمه «إيثاكي».. أغلب هذه الأفلام تصور بكاميرا «ديجيتال» بغرض التوفير وأيضا لأنها لا تعتمد على نجوم الشباك بل تتم الاستعانة غالبا بوجوه جديدة بعضها يقف لأول مرة أمام الكاميرا ولهذا تعبر هذه الأفلام عن أفكار وومضات مخرجيها وليس شطحات نجومها.. المخرج يقدم أفكاره دون خوف من اعتراض نجم الفيلم وأثبتت هذه الأفلام جدارتها في المهرجانات.. وهكذا مثلا حصدت مصر جائزتين في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: واحدة من مهرجان «ترايبيكا» الدولي في الدوحة عن فيلم «الحاوي» لإبراهيم بطوط وهي جائزة أفضل فيلم عربي والثانية «التانيت الذهبي» من مهرجان «قرطاج» عن فيلم «ميكروفون» لأحمد عبد الله وهذا الفيلم يشارك في مهرجان القاهرة داخل المسابقة العربية ويشترك أيضا في مهرجان «دبي» الذي يفتتح يوم 11 ديسمبر الحالي مع فيلمين آخرين وهما «الخروج» و«765».. هذه الأفلام تجد بالتأكيد صعوبة في العرض الجماهيري داخل مصر رغم حصولها على جوائز هامة فلم يستطع الجمهور أن يتوافق معها. عرض جماهيريا في العام الماضي فيلما «عين شمس» لإبراهيم بطوط و«هليوبوليس» لأحمد عبد الله ولم يحققا إيرادات.. عرض مؤخرا وعلى استحياء وفي عدد محدود جدا من دور العرض فيلم «بصرة» للمخرج أحمد رشوان بين أفلام العيد وأيضا أخفق جماهيريا رغم أنه فيلم تنساب فيه الدراما مع الصورة لتصنع حالة خاصة.. لم أشعر في البداية بارتياح عندما قرأت اسم «بصرة» على اعتبار أن هناك تعسفا بين لعبة الكوتشينة الشهيرة «البصرة» وبين مدينة «البصرة» بالعراق إلا أن الفيلم عندما شاهدته اكتشفت أنه لا يضع هذا الفرض باعتباره قيدا على الدراما ولا على عمق الفكرة ولأنه في النهاية سيجد أمامه هذا التوافق بين البصرة في الكوتشينة وبين اغتصاب البصرة في العراق الكل مغتصب في اللعب وفي الحرب وفي الحب وتلك هي «البصرة» التي أرادها المخرج!! في عز الأزمة التي تعيشها ولا تزال السينما المصرية كان ينبغي أن يبرق ضوء أبيض أراه دائما في تلك التجارب التي تخرج عن النمط الإنتاجي السائد.. تحاول أن تعثر على بديل لا يفرض شروطا على صانع العمل الفني.. السينما المصرية هي ابنة السوق التي تفرض على المخرجين الانسحاق أمام النجوم - لا أتحدث بالضرورة عن النجم عندما ينتج - ولكن كل النجوم Super Star يقدمون أفلامهم وليست أفلام المخرجين فهم الذين يتحكمون في كل التفاصيل.. كان جيل الثمانينيات: «خان، داود، الطيب، بشارة» لديه أحلام أخرى ساعده على تحقيقها أن هناك بطلا مثل أحمد زكي، مثلما أضافوا له ألقا ووهجا أضاف هو لهم وكان أيضا من بين النجوم نور الشريف رغم أنه بدأ مشواره في نهاية الستينات لكنه توافق مع أحلام جيل الثمانينات فلقد كان أحمد ونور نجمين ملتزمين بأفكار هؤلاء المخرجين وبنسبة كبيرة كانا حريصين على الذوبان الفني في تلك المشروعات المنسوبة إلى مخرجيها.. أما هذا الجيل من المخرجين فكيف يحقق أحلامه وأمامنا النجوم الجدد يسيطرون أيضا على مفردات الفيلم السينمائي؟ بعض المخرجين الشباب اعتقد أن الحل في الاستعانة بالوجوه الجديدة ولكننا في أغلب هذه الأفلام لم نعثر على شيء يحمل بصمة خاصة.. كان فيلم «أوقات فراغ» 2006 محاولة على مستوى الفكرة والتناول ولكن الرؤية الإخراجية لمحمد مصطفى كانت تنتمي إلى زمن آخر وهكذا رأينا.. كانت أغلب شركات الإنتاج تفرض في كثير من الأحيان نجوم جدد على المخرج الجديد وهو في نفس الوقت لا يستطيع الرفض لأنه يريد إنجاز مشروعه فكان لا بد من العثور على طريق آخر.. سينما طازجة قدمها أحمد رشوان في فيلمه «بصرة» الذي كتب له أيضا السيناريو يمزج فيها بين حالة البطل (باسم سمرة) التي تتماهى مع أحداث الغزو الأميركي البريطاني للعراق 2003.. كانت قناة «الجزيرة» حاضرة في هذا الفيلم وهي توثق الحدث حتى رحيل المذيع طارق أثناء القصف الأميركي وهو يؤدي واجبه يتحول إلى حالة درامية تمهد لرحيل صديق «باسم سمرة» الذي أدى دوره الفنان الأردني إياد نصار.. البطل مصور فوتوغرافيا يبحث عن ومضات الحياة بينما يعيش الفوضى في حياته.. الأبطال كلهم نتاج فوضى الحياة ولكنهم يبحثون عن خطوط بعيدة جدا ربما تجمع هذه الفوضى.. الوجوه في هذا الفيلم لا تمثل ولكننا نصدق أنها تعيش بيننا.. «باسم سمرة» ينتمي إلى هؤلاء الذين تراهم كثيرا في الشارع ويحافظ دائما أمام الكاميرا على أن يظل هو هذا الإنسان الذي تلتقي به دون أن يشعرك أن هناك كاميرا بينك وبينه.. عدد من الممثلين كانت هذه هي تجاربهم الأولى: يارا جبران، ناهد السباعي، فاطمة علي، استطاع المخرج الحفاظ على بكارتهم أمام الكاميرا.. أما باسم سمرة وإياد نصار فإنهما رغم احترافهما فإن المفتاح في الأداء الذي اتكأ عليه المخرج هو الروح التلقائية.. مدير التصوير فيكتور كريدي أبدع في تنفيذ اللقطات وخلق الإضاءة خاصة الداخلية وكان قد حصل على جائزة التصوير في مهرجان «فالنسيا» وقبل عامين حصل الفيلم أيضا على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان «القاهرة»!! قيمة هذا الفيلم (بصرة) أنه أخذ قطعة من الحياة وأحالها إلى شريط سينمائي نطل منه على حياة الأبطال لنرى حياتنا!! تجد في الفيلم درجة انضباط في كتابة السيناريو أي إن هناك تحضيرا مسبقا للكاتب والمخرج أحمد رشوان بينما مثلا إبراهيم بطوط في فيلمه «الحاوي» ترك لممثليه إمكانية الارتجال أكثر بل بنسبة تزيد عن 90 في المائة من الحوار داخل هذا الفيلم نجدها من وحي الأبطال بل ووحي اللحظة وربما لهذا السبب حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم في «الدوحة» من لجنة التحكيم التي رأستها يسرا وكان من بين أعضائها سلمى حايك النجمة العالمية.. قدم بطوط ما يمكن أن نطلق عليه تعبير «دراما الواقع» على غرار «تلفزيون الواقع».. حيث إن الزمن الواقعي يقترب من الزمن الفني.. كما أن الحوار في الحياة بما فيه من لحظات صمت على سبيل المثال تصبح هي أيضا اللحظات التي تلتقطها الكاميرا.. التصاق كان يبدو حادا جدا إلى درجة التطابق ولكن تلك هي أفكار ومنهج «بطوط».. بينما يقف أحمد عبد الله في فيلمه «ميكروفون» في مرحلة متوسطة بين انضباط الحوار لدى أحمد رشوان والحرية التي تصل إلى حدود الارتجال عند بطوط.. المخرج والكاتب أحمد عبد الله استند بالتأكيد إلى حوار مكتوب سمح لأبطاله بحفظه وقبل ذلك بالاتفاق عليه ولكنه في نفس الوقت يحافظ على الإحساس التلقائي ليس فقط في كلمات الحوار ولكن في أسلوب أداء الحوار.. تعامل أحمد عبد الله في فيلم «ميكروفون» مع نجوم محترفين أمثال خالد أبو النجا ومنة شلبي ويسرا اللوزي على الجانب الآخر كان القسط الوافر من الممثلين هم من الهواة الذين يقف بعضهم لأول مرة أما الكاميرا ورغم ذلك نجح في أن يمنحنا الإحساس بأن الجميع من الهواة.. الفيلم يقدم حياة الشاب الذي يؤدي دوره خالد أبو النجا يعود من الخارج ليكتشف أن حبيبته التي أدت دورها منة شلبي تريد الهجرة ويغني في النهاية «شيخ البلد خلف ولد ساب البلد»!! السينما المصرية التي عانت كثيرا في السنوات الأخيرة من سيطرة شطحات النجوم الذين كانت تصنع لهم ومن أجلهم الأفلام تشهد بارقة أمل جديدة في تلك الأفلام التي تنحاز إلى أفكار وومضات مخرجيها سواء أطلقت عليها سينما مستقلة أو مختلفة أو أي تسمية أخرى فإنها في النهاية سينما قادرة على المنافسة ودعونا ننتظر مساء يوم الخميس القادم وما الذي تسفر عنه نتائج مهرجان القاهرة السينمائي الدولي!!