هل كانت ثورة يناير ضد الفنانين العرب؟

حكاية «جحا وثوره» تسيطر على «ماسبيرو»

جمال سليمان
TT

أشعر أن الثورة المصرية العظيمة كانت أيضا في عمقها تحمل توجها عربيا.. لقد كان الثوار في تونس الخضراء بعد أن فجروا ثورة الياسمين حريصين على أن ينقلوا لرفاقهم المصريين أثناء ثورة اللوتس نصائح لمواجهة العنف الذي تمارسه الأجهزة القمعية عادة في كل أرجاء الوطن العربي.. وهكذا أثناء مشاركتي في المظاهرات بميدان التحرير بالقاهرة كان يتم توزيع مياه غازية ليس بغرض الشرب ولكن نصيحة تونسية لمواجهة القنابل المسيلة للدموع، هكذا قال لي شاب متطوع لتوزيع المياه الغازية.. شاب آخر منحني زجاجة صغيرة بها خل لأن النصيحة التونسية تؤكد أنه يستطيع مقاومة الاختناق الذي تثيره تلك القنابل، وأن استنشاق قليل من الخل يحسم الأمر.. بالطبع لا توجد وصفة لمواجهة الرصاص المطاطي ولا الرصاص الحي الذي تلجأ إليه قوات الشرطة للقتل، لا توجد وصفة تونسية ولا مصرية! انطلقت الثورة من تونس بشعار واحد انتقل بتنويعات متعددة من بلد عربي إلى آخر وهو «الشعب يريد إسقاط النظام» رددوها في مصر مع تغيير كلمة النظام في مرحلة متقدمة من الثورة بعد بضعة أيام إلى «الشعب يريد تغيير الرئيس» ثم «محاكمة الرئيس» وفى ليبيا صار النداء «الشعب يريد إسقاط العقيد» وشاهدنا للثورة تنويعات عربية في اليمن وسلطنة عمان والبحرين، كل دولة بالتأكيد كانت لها خصوصيتها، إلا أنه ولا شك هناك وشائج قربى بين كل الثورات العربية.

الغريب في الأمر هو ما حدث في التلفزيون المصري الذي يديره حاليا اللواء الضابط «طارق المهدي» بمساعدة من «سامي الشريف» الأستاذ في كلية الإعلام الذي أسندوا له مسؤولية قيادة اتحاد الإذاعة والتلفزيون، إلا أن السلطة الفعلية في «ماسبيرو» لا تزال ممثلة في القوات المسلحة وتقع تحت مسؤولية «المهدي»!! وكالعادة فإن البعض يحيل الثورة، هذا الفعل العظيم، إلى قرار صغير من أجل مصالح تبدو مرحلية تغيب عنها الرؤية الاستراتيجية.. مصالح ينظر خلالها أصحابها تحت أقدامهم فقط!! قرر اللواء «طارق المهدي» تقليص عدد المسلسلات التي تنتجها الدولة مع تخفيض الميزانيات وهذا القرار في هذا التوقيت تحديدا لا غبار عليه.. وكان بعض المخرجين والنجوم قد تعاقدوا على أعمال فنية ثم توقف إنتاجها بسبب قرار تكثيف العدد ومن الممكن أن نتفهم هذا القرار الصادر في ظل تقليص الميزانيات، إلا أن القادم هو الأسوأ وذلك عندما اكتشف العاملون في ماسبيرو أن المسلسلين اللذين بات مؤكدا إنتاجهما هما «أهل الهوى» الذي يتناول حياة شاعرنا الكبير «بيرم التونسي» المسلسل كتبه الكاتب الكبير «محفوظ عبد الرحمن» وكان مرشحا لإخراجه المخرج الأردني «عباس أرناؤوط» ولبطولته النجم السوري «تيم حسن» كما أن مسلسل «شجرة الدر» الذي كتبه «يسري الجندي» رشح لإخراجه الأردني أيضا «محمد عزيزية» ورشحت لبطولته السورية «سلاف فواخرجي». هذان هما المسلسلان اللذان بات من المؤكد إنتاجهما.. على الفور نشطت كل المشاعر العدائية لدى البعض تجاه كل ما هو غير مصري، ومع الأسف هذه المشاعر عبرت عن نفسها ووجدت آذانا صاغية ومناخا محتقنا يسمح بذلك واستمعنا إلى كلمات من نوعية «اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع» و«جحا أولى بلحم ثوره» وأنه عندما تتوفر أعمال فنية أخرى سوف تمنح الفرصة للعرب ولكن أولا يحصل الفنان المصري على حقه، وهكذا رجعنا للمربع رقم واحد في التعامل مع الفنان العربي الذي كان قبل انتشار الفضائيات ينظر إليه باعتباره إضافة من الممكن الاستغناء عنها أما بعد انتشار القنوات الفضائية والتي أصبح عددها يتجاوز 700 قناة ناطقة بالعربية فقد أفرز هذا العدد قانونا آخر في التعامل مع الأعمال الفنية الدرامية!! المؤكد أن من أقنع اللواء المسؤول عن تسيير أعمال «ماسبيرو» بهذا الإجراء التعسفي ضد كل ما هو عربي ليست لديه رؤية، لا أقول سياسية، ولكن بالدرجة الأولى اقتصادية، لأن اشتراك الفنان العربي في المسلسلات المصرية لا يخضع كما يروج البعض لتوجه مصري باحتواء العرب. ولهذا وطبقا لهذا الشرط إذا كانت الأعمال الفنية متوفرة فلا بأس في هذه الحالة من مشاركة الفنان العربي ولكن عندما تضيق الفرص فسحقا للفنان العربي.. الحقيقة أن ما يفرض وجود الفنان العربي هو بالدرجة الأولى قانون اقتصادي له علاقة بالتسويق في مختلف الفضائيات.. ولكننا عدنا إلى نفس المنطق الذي تفجر في مصر عام 2008 وتحديدا مساء 5 أبريل عندما أعلن نقيب الممثلين السابق «أشرف زكي» في مقر نادي نقابة الممثلين أنه لن يسمح للفنان أو للفني العربي إلا بتقديم عمل فني واحد، ويومها توقع العديد من الفنانين والفنيين الذين ليست أمامهم فرص للعمل في مصر أن هذا القرار سوف يعيدهم للاستوديوهات وهو بالطبع ما لم يتحقق!! والحقيقة أن هناك أعراض غضب أعلنت عن نفسها وأدت إلى إصدار هذا القرار قبل أكثر من عامين بدأت بعد النجاح الطاغي الذي حققه النجم السوري «جمال سليمان» في مسلسل «حدائق الشيطان» ومن بعدها كثر وجود الفنانين السوريين في الدراما المصرية، وفي محاولة لامتصاص الغضب أصدر «أشرف زكي» هذا القرار ثم تراجع عنه بعد ذلك مؤكدا أنه لم يكن يقصد، وقلت يومها بعد إصدار هذا القرار بساعات قليلة على الهواء في البرنامج المصري الشهير «البيت بيتك» قبل أن يصبح اسمه «مصر النهارده» قلت إن هذا القرار يحمل بداخله أسباب موته وهو ما حدث بعد بضعة أشهر. وكان بعض الفنانين، طمعا في تحقيق وجود فني، قد رحبوا بهذا القرار ودافعو عنه، ونسي هؤلاء أن الاستعانة بالفنان العربي ممثلا أو مخرجا أو موسيقيا ليست لها علاقة برغبة إنتاجية ولكنها صارت بمثابة ضرورة اقتصادية يفرضها الواقع بعد انتشار الفضائيات.. لقد أصبح تسويق المسلسل عبر الفضاء وليس من خلال القنوات الأرضية كما كان يحدث قبل 10 سنوات، ولهذا فإن العمل الفني لم يعد يحمل جنسية إبداعية محددة؛ مصري أو سوري أو تونسي.. مثلا تجد في العمل الفني عناصر من كل العالم العربي بغرض الحصول على أفضل توليفة إبداعية وأيضا تسويقية.. الغريب أن أكثر مخرج مصري تعرض للهجوم بسبب استعانته بفنان عربي كان هو المخرج «إسماعيل عبد الحافظ» هاجمه أكثر من فنان مصري وقالوا كيف يسند دور الصعيدي «مندور أبو الدهب» إلى الممثل السوري «جمال سليمان» وكان «عبد الحافظ» يدافع عن نفسه مؤكدا أن الإبداع لا يعرف جنسية، والغريب أن «عبد الحافظ» هو الذي سعى أن يحل مكان المخرج الأردني «عباس أرناؤوط» في مسلسل «بيرم التونسي» وأغلب الظن أنه أمام تلك النعرة المصرية التي شاهدناها مع الأسف وهى تعلو بعد ثورة يناير في جنبات «ماسبيرو»، الأكيد أننا في هذه الحالة سوف نستمع إلى أصوات تدعو لاستبدال الفنان السوري «تيم حسن» بفنان مصري تبعا لنفس الحجة وهى حكاية جحا ولحم ثوره. بالطبع من حق المخرج الجديد ألا يتقيد بترشيحات من سبقه من المخرجين لأن لكل مخرج رؤية إبداعية ولكن أتمنى ألا يسود الإحساس المصري في الاختيار أي إننا نرشح الفنان المصري لمجرد كونه مصريا ولكن الأفضل فنيا هو الأولى بعيدا عن الجنسية!! الكل أراه الآن ينظر تحت قدميه، فما الذي سوف يحدث إذا أغلقت مصر الأبواب أمام الفنانين العرب؟ سوف ندفع نحن الثمن لا محالة.. أتفهم بالطبع في ظل ظرف اقتصادي غير ملائم أن يخفض الفنانون من أجورهم ولكن هذا يسري على المصري والسوري واللبناني والخليجي، وهكذا مثلا أعجبتني «سلاف فواخرجي» عندما سارعت بالتأكيد على ترحيبها بتخفيض أجرها في مسلسل «شجرة الدر» الذي رشحت لبطولته قبل نحو شهرين عندما كان المخرج المنوط به تقديم العمل هو الأردني «محمد عزيزية» قبل أن يسند الإخراج إلى «مجدي أبو عميرة» قالت «سلاف» إنها تقدر بالطبع الظرف الاقتصادي الذي يعيشه «ماسبيرو» ولهذا لن تتناقش في أجرها السابق الذي تعاقدت عليه قبل الثورة وسوف تقبل بالأجر الذي تحدده جهة الإنتاج، وبالتأكيد على المخرج الجديد ألا يضع شرط الجنسية المصرية في الاختيار!! أنا مثلا لا أنسى أن «تيم حسن» لعب باقتدار دور الملك «فاروق» في المسلسل الشهير قبل ثلاث سنوات إخراج «حاتم علي» ويومها قالوا كيف أن فنانا سوريا يؤدي هذا الدور، على الرغم من نجاحه الطاغي، وكان قد سبق لتيم أن لعب أيضا باقتدار دور الشاعر السوري «نزار قباني».. الأمر ليست له علاقة بالجنسية ولكن بالقدرة على التقمص الوجداني؟! أتمنى أن تخرج الدراما المصرية من هذا النفق المظلم الذي كنا قد عبرناه قبل عامين.. مصر والثورة المصرية التي فجرها شباب 25 يناير كانت ثورة عربية أيضا وعلى كبار الفنانين أن يتجاوزوا مصالحهم الصغيرة بعد أن سقطت تلك النعرات الإقليمية في الفن لأنك إذا منعت الممثل السوري والمخرج الأردني فهل تمنع طبقا لنفس المنطق المطرب العربي من إقامة الحفلات على أرض مصر بمنطق جحا وثوره.. الأمر يحتاج إلى رؤية أكثر عمقا.. ثورة يناير لا يمكن أن نعتبرها عدوا للفنان العربي!!