ثورات نبيلة.. وأفلام وطنية ليست كذلك

السينما المصرية صعدت على السجادة الحمراء ولم يشعر بها أحد

فيلما «صرخة نملة» و«18يوم» شاركا في مهرجان كان السينمائي
TT

صعدت السينما المصرية مرتين أثناء انعقاد مهرجان «كان» على السجادة الحمراء: واحدة لفيلم «18 يوم» والثانية لفيلم «صرخة نملة».. ارتدى الفنانون الاسموكن، والنجمات ملابس السهرة، ولوح المصريون للجماهير المحتشدة أمام قاعة لوميير.. لا أتصور أن هناك من اهتم من تلك الجموع الغفيرة بما يحدث؛ حيث لم يقل المذيع الموجود على منصة المهرجان شيئا متعلقا بالثورة المصرية أو الأفلام المشاركة باسم مصر أو حتى استمعنا إلى موسيقى لأغنية وطنية ارتبطت بالثورة المصرية.. الكل لوح بعلامة النصر، إلا أنني لا أعتقد أن الآلاف الذين وجدوا على مقربة من قصر المهرجان لرؤية النجوم العالميين وهم يصعدون السلم قد عثروا على شيء مشترك بين ما يشاهدونه أمامهم والثورة المصرية، ربما اعتقدوا أن هؤلاء الصاعدين على السلالم من الجماهير العادية من بين مشاهدي الفيلم الأجنبي الذي كان سيعرض بعدها بدقائق؛ لأن الفيلمين المصريين والفيلم التونسي لم يعرض أي منهما في قاعة لوميير الكبرى، بل جاءت العروض في صالات أقل اتساعا.. لم نشعر بأن هناك حفاوة خاصة من الجماهير، هذا إذا استثنينا بالطبع المصورين والصحافيين العرب الذين يتابعون من قبل عقد «كان» تفاصيل تكريم المهرجان لثورتي مصر وتونس.

إننا بصدد حالة سياسية بالدرجة الأولى، ولا يمكن اعتبارها أبدا حالة إبداعية.. ضاقت المسافة بين السياسة والإبداع الفني في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان»، التي انتهت فعالياتها مساء الأحد الماضي؛ حيث تم اختيار مصر ضيف شرف لأول مرة لأسباب سياسية، وتم الاحتفاء بتونس الثورة وليست تونس السينما، للأسباب نفسها، وذلك لأن الثورات العربية انطلقت من تونس أولا.

هناك ولا شك مساحة تتسع أو تضيق بين قيمة الحدث الوطني الذي تعيشه البلد، وأسلوب التعبير عن هذا الحدث، ليس بالضرورة أن الأحداث العظيمة في حياة الأمم تخلق مباشرة إبداعا عظيما.. في النصف الثاني من فعاليات مهرجان «كان» جاء موعدنا مع الأفلام العربية التي تناولت الثورتين المصرية والتونسية.. عرض الفيلم التسجيلي التونسي الطويل «لا خوف بعد اليوم» لم يحمل الفيلم سوى تكرار ممل لدوافع الثورة العظيمة التي فجرها الشباب التونسي لتتحول إلى ثورات مضيئة تنتقل إلى عالمنا العربي محملة بعطر ثورة الياسمين.. بل إن النداءات التي رأيناها تتكرر في الثورات العربية كلها، انطلقت أولا من تونس، مثل: «سلمية» و«الشعب يريد إسقاط النظام» و«ارحل»، كما أن أسلوب الشرطة في قهر الناس بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والضرب والسحل يتكرر.

أكثر من ذلك، فإن محاولة الالتفاف التي مارسها بن علي ثم مبارك على مطالب الجماهير وأسلوب الاستعطاف الذي لجأ إليه الاثنان في محاولة أخيرة لكسب رضا الناس، ذلك كله رأيناه مع كل رئيس عربي تهدده الشعوب بالرحيل، فيبدأ على الفور في استعطافها وكسب ودها بالتأكيد أنه تفهم مطالبها.. الغريب أن الفيلم التونسي التسجيلي الطويل الذي أخرجه مراد الشيخ لم يستطع الاقتراب من روح الثورة النبيلة، بل كان بناؤه الفني أقرب إلى «ريبورتاج» تلفزيوني، وأغلب الأفلام القصيرة المصرية التي اشتركت في تلك الاحتفالية تحت اسم «18 يوم» رأيت فيها أيضا المأزق نفسه، وهي أنها لم ترق إلى مستوى الحدث العظيم، بل أتصورها لعبت دورا عكسيا؛ حيث إنها سرقت الكثير من أحاسيس البهجة التي عشناها جميعا أثناء الثورة.

الاختلاف الوحيد بين ما حدث في مصر وتونس هو أنه في تونس لم يعترض أحد على اختيار الفيلم التسجيلي الطويل التونسي للعرض في «كان»، بينما في مصر استمعنا إلى الكثير من الأصوات الغاضبة التي سبقت عرض الفيلم بأكثر من أسبوعين، ووصلت نيران الاحتجاج إلى مهرجان «كان»، وكانت ملامح الرفض تبدو على عدد كبير من المخرجين وأيضا بعض نجوم هذه الأفلام، وكان أكثرهم حدة في إعلان رفضه هو عمرو واكد، الذي شارك في بطولة الفيلم الذي أخرجه مروان حامد باسم «19 - 19» وأصدر بيانا يشجب فيه هؤلاء المتسلقين، ثم بعد ذلك سافر إلى «كان» وقاطع الأمسية السينمائية التي أقيمت للسينما المصرية ورفض تلبية الدعوة للصعود على سلم قاعة لوميير مرتديا الاسموكن؛ لأن لديه إحساسا بأن هناك من قفز على الثورة وأراد تقديم نفسه باعتباره هو الثوري على الرغم من أنهم كانوا الأقرب إلى عهد وزمن وعائلة مبارك، بل واستفادوا ماديا وأدبيا من هذا الاقتراب.

وعلى الرغم من ذلك فإن المقياس الفني أثناء مشاهدة هذه الأفلام كان بالنسبة لي هو المعيار الأهم، ونحيت جانبا في تقييم المواقف السياسية السابقة المؤيدة للنظام البائد لعدد من المشاركين في هذه الأفلام.. الغريب أن أكثر مخرجين تعرضا لهجوم مباشر قبل عرض الأفلام كانا شريف عرفة ومروان حامد؛ لأنهما شاركا في إخراج الأفلام الدعائية لمبارك قبل ترشحه لفترة ولاية خامسة، وقدما على الرغم من ذلك أسوأ فيلمين ضمن الأفلام القصيرة العشرة التي عرضت تحت عنوان «18 يوم».. الفيلم الأول «احتباس» لعرفة لا يحمل أي لمحة أو وهج فني.. يقدم الفيلم مجموعة من المرضى النفسيين وجدوا في المستشفى، كل منهم يعبر عن موقف فكري مختلف، وكأنهم قد صاروا بمثابة بانوراما تتجسد في أنماط بشرية لما يجري في الحياة خارج حدود هذه الغرفة.. تصل إليهم أحداث الثورة المصرية عن طريق جهاز التلفزيون الذي يقدم لمحات مما كان يجري في مصر كلها، من مظاهرات تريد خلع مبارك حتى تأتي النهاية عند إعلان تنحي مبارك، كما أن إدارة المستشفى بعد الثورة تغير من قواعدها في التعامل مع المرضى.. افتُقدت في هذا الفيلم روح المخرج شريف عرفة كما عودنا في أفلامه الطويلة الساخرة، وجاء فيلمه القصير هذه المرة خاليا من أي نبض فني.

«19 - 19» للمخرج مروان حامد، الذي يقدم لحظات من حياة معتقل سياسي، من الممكن أن تجد في ملامحه بقايا من كل الأعمال الفنية التي تناولت المعتقلين السياسيين في الأفلام القديمة التي قدمت هذه القضية المزمنة في عالمنا العربي، وهي علاقة السلطة بالمواطنين، وكيف تقهرهم بسبب وشايات الشك، كما أن في شخصية السجين السياسي التي أداها عمرو واكد لمحات من وائل غنيم الذي قال في أكثر من حوار إن معتقليه حذروه من خلع تلك العصابة السوداء عن عينيه، وحرص المخرج على أن يظل واكد واضعا على عينيه تلك العصابة.. الفيلم أيضا لا يحمل أي جهد إبداعي سواء في التناول الدرامي أو الإخراجي.

في فيلم «داخلي خارجي» للمخرج يسري نصر الله، نرى زوجين (آسر ياسين ومنى زكي) وكيف أن الزوج يرفض أن تشارك زوجته في المظاهرات وينتهي الأمر بأن تذهب رغما عنه ويشاركها هو في الهتاف ضد مبارك.. أقحم نصر الله مشهدا ليسرا تعلن فيه انتماءها للثورة ودفاعها عنها وعن الشهداء ولم أجد سوى أنه مشهد مقحم ربما يرضي يسرا التي تريد أن تقدم رسالة تنفي خلالها ارتباطها بالنظام القديم وتأييدها للثورة، إلا أن هذا المشهد بالتأكيد لا يحمل أي قيمة إبداعية، وكان من الممكن دراميا أن يحذف.

وهناك أفلام مثل «حظر التجول» لشريف البنداري، أراه يبدو معاديا لروح الثورة؛ لأنه يتناول علاقة الجيش والمقاومة الشعبية بالمواطنين.. وقدم المخرج وجهة نظر سلبية لتلك العلاقة، لجأ المخرج إلى أسلوب التكرار لخلق الضحك، لكنه أخفق في تحقيق ذلك.. فيلم «لما يجيلك الطوفان» لمحمد علي قدم الوجه السلبي لمن يشارك في التظاهر، أمامنا مواطن مستعد أن يرفع صورة مبارك لو أنه يبيع بها العلم المصري، ومستعد أيضا أن يرفع صورة الثورة على العلم لو أنه يبيع بالثورة، وعلى الرغم من كونها حالة حقيقية شاهدناها جميعا فإنني أرى التوقيت خاطئا، فلا ينبغي، ونحن نحتفل بالثورة في أول مظاهرة، أن نقدم هذا الوجه على الأقل الآن.. فيلم «شباك» لأحمد عبد الله يمر وكأن شيئا أو فيلما لم يكن!! وتبقى لدينا 4 أفلام حملت قدرا من الإبداع مثل «كعك التحرير» إخراج خالد مرعي وبطولة أحمد حلمي، الذي يؤدي دور ترزي يخشى أن يغادر دكانه خوفا على نفسه من المتظاهرين أو الأجهزة الأمنية التي سوف تلقي القبض عليه باعتباره معاديا للرئيس، وأثناء وجوده بالمحل وخوفه من النهاية يريد أن يسجل لحظاته الأخيرة، إلا أنه يخشى حتى أن يسجل على شريط كاسيت ما يشعر به؛ لأن الشريط كان عليه خطبة لمبارك وهو لا يستطيع أن يمحو صوته، من فرط خوفه، يضع صوت مبارك في مكانة تقديس صوت القرآن، فكما أنه لا يستطيع أن يسجل على شريط القرآن لا يستطيع أن يفعل ذلك مع صوت مبارك، إنه التقديس للرؤساء، وهو ما تسعى لتكريسه كل الأنظمة الديكتاتورية في عالمنا العربي وهو ما قدمه هذا الفيلم.. إلا أنه في النهاية ومع ازدياد قوة التظاهر يخرج من دكانه ولم يدرك أنه كان يرتدي بدلة أمين شرطة كان قد تركها لديه مما يعرضه لاعتداء المتظاهرين ويترك المخرج النهاية مفتوحة فلا ندري ما هو مصيره: هل سيقتله المتظاهرون اعتقادا منهم أنه أمين شرطة، أم سوف يدركون أنه ترزي انضم للمتظاهرين ضد مبارك وضد جهاز الشرطة الذي كان ينفذ التعليمات بضرب وقتل المتظاهرين؟

فيلم آخر لمريم أبو عوف عنوانه «تحرير 2 - 2» عن زوجين، الرجل آسر ياسين يشارك في المظاهرة لمن يدفع أكثر، ولهذا يذهب إلى ميدان مصطفى محمود لتأييد مبارك؛ لأن هناك من يجزل له العطاء المادي، إلا أنه يكتشف أن بداخله روح النضال وفيضا كامنا في حب الوطن ويفضح الفيلم هؤلاء الذين كانوا يتعاونون مع البلطجية ويستقطبونهم لتأييد مبارك بالأموال، إلا أنه يتمرد على ضعفه واحتياجه للمال وينضم هو وزوجته (هند صبري) للثوار.. أما أفضل الأفلام فهما «خلقة ربنا» لكاملة أبو ذكري عن فتاة صغيرة تبيع المياه المعدنية للناس وتكسب بالقروش الضئيلة قوت يومها، أمنيتها أن تغير لون شعر رأسها إلى الأصفر، تنزل للميدان لبيع بضاعتها، وهناك تكتشف أنها ينبغي أن تدافع عن مصر وتستشهد وهي تهتف لمصر أيضا.. وفيلم «إبراهيم سبرتو» لأحمد علاء؛ حيث يتحول الحلاق الذي يقع دكانه في وسط البلد إلى طبيب، بل وجراح، لمساعدة المصابين أثناء التظاهر.. إنهما بلا شك الأفضل بين الأفلام العشرة كلها.

هل وصلت هذه الأفلام إلى التعبير عن قيمة الثورتين العربيتين المصرية والتونسية؟ إجابتي هي: لا.. هل كان ضيق الوقت هو السبب، أم أن خيال المبدعين كان قاصرا لم يصل إلى روح الثورة؟ مع الأسف الثانية هي الحقيقة المؤكدة، وهي أنهم لم يستوعبوا بعدُ روح الثورة.. ولا أزال أنتظر فيلما عربيا تسجيليا أو روائيا أجد فيه روح الثورة العربية التي مع الأسف لم ألمحها.. لقد شاهدنا أثناء وأعقاب الثورات العربية على «يوتيوب» أعمالا إبداعية أكثر وهجا وتألقا؛ لهذا كان سقف طموحنا أعلى بكثير مما أسفر عنه ما شاهدناه في «كان».