هدى سلطان.. وإن كنت ناسي أفكرك

في ذكرى وفاتها الخامسة

هدى سلطان
TT

لا أنسى أنني في الندوات التي كنت أقيمها في نقابة الصحافيين المصرية وتتناول المسلسلات التلفزيونية، كنت أسعد كثيرا عندما تلبي دعوتي للحضور الفنانة الكبيرة «هدى سلطان» بطلة مسلسلات مثل «زينب والعرش»، «الوتد»، «الليل وآخره»، «أرابيسك» وغيرها.. كانت دائما «هدى سلطان» حتى بعد ارتدائها الحجاب تبدو لي وكأنها في حالة انتظار وترقب للسؤال الذي ننهي به اللقاء، حيث يطلب منها دائما الحاضرون أن تغني واحدة من أروع أغانيها «إن كنت ناسي أفكرك»، التي قدمتها في فيلم جعلوني مجرما.

وظلت «هدى سلطان» دائما وحتى اللحظة الأخيرة من عمرها قادرة على أن تمنحنا حالة من الشجن النبيل، كان صوتها دائما هو مرفأ الدفء، 60 عاما من العطاء والمرونة مع الزمن، فهي المرأة الجميلة والمثيرة في أفلام مثل «امرأة على الطريق»، و«الأسطى حسن»، و«رصيف نمرة 5»، و«حميدو»، و«تاكسي الغرام»، و«لمين هواك»، و«الشيخ حسن». ثم تمضي بها الأيام لنراها متألقة وناضجة في دور الأم في رائعة الكاتب «إحسان عبد القدوس» والمخرج كمال الشيخ «شيء في صدري»، وتصل بها المحطة السينمائية إلى آخر أفلامها «من نظرة عين» عام 2004 لتصبح فنانة عصية على النسيان، خاصة أنها في الـ15 عاما الأخيرة من عمرها حفرت صورة ذهنية لشخصية الأم الإيجابية، فهي لا تقدم مجرد دور مكمل للحالة الاجتماعية في الأسرة كما تعودنا، لكن هناك دائما قيمة درامية نراها في تلك الأدوار التي تسند إليها فنصبح أمام ليس فقط دراما مكتوبة بحرفية عالية ولكن «هدى سلطان» قادرة على أن تبعث فيها الحياة!! انتقلت موهبة «هدى سلطان» من شاشة التلفزيون والسينما إلى الناس لتصبح هي الأم التي لها مساحة حب داخل كل منا مهما تباعدت مرات اللقاء! عطاء «هدى سلطان» الذي تجاوز نصف قرن هو تعبير حي ودرس فني للأجيال في قدرة الفنان على استيعاب متغيرات الزمن وعلى الإمساك بكل مفرداته. أحالت «هدى سلطان» الزمن من عدو لدود، إلى صديق حميم ولهذا لم يتوقف نهر عطائها عن الجريان! سألت نفسي لماذا نتذكر دائما الممثلة «هدى سلطان» أكثر مما نتذكر المطربة «هدى سلطان»؟! لم أفكر في هذا السؤال طوال حياة «هدى سلطان» ولكني وجدت نفسي أستعيد بعض محطات من مشوارها الفني في ذكراها الخامسة التي حلت علينا ومصر تعيش أحداث ثورة طغت على الكثير من الأحداث ولهذا مرت ذكراها هذه المرة من دون أن يتذكرها أحد.

أحاول أن أستعيد بعض ومضات من مشوارها لعلي أعثر على إجابة، لماذا عاشت الممثلة «هدى سلطان» أو على أقل تقدير صارت هي العنوان الأبرز على خريطتها الفنية؟

اقتحمت «هدى» الحياة الفنية لكي تغني، اسمها الحقيقي هو «بهيجة عبد العال الحو»، وكان شقيقها «محمد فوزي» قد سبقها للحياة الفنية ببضع سنوات وحقق نجاحا لافتا في سنوات قليلة وصارت ألحانه وأغنياته على كل لسان في غضون سنوات قليلة، لكن «فوزي» كرجل شرقي الطباع لم يستطع أن يتقبل بسهولة أن يسمح لشقيقته بممارسة الفن وحذرها، وعندما لم تستجب كان على استعداد لقتلها لكن تدخلت زوجة «فوزي» في تلك السنوات مطلع الخمسينات الفنانة «مديحة يسري» بالصلح بينهما، خاصة أن «هدى» كانت قد تزوجت في تلك السنوات من وحش الشاشة «فريد شوقي» فلم يعد هناك سبب لكي يظل «فوزي» على موقفه المتصلب فهو يسمح لزوجته بممارسة الفن ولكنه يحرمه على شقيقته.

وغنت «هدى» للكبار من الملحنين في تلك السنوات وبينهم بالطبع «فوزي» وتألق صوتها مع ألحان «عبد الوهاب»، و«رياض السنباطي»، و«محمود الشريف»، و«أحمد صدقي»، و«محمد الموجي»، و«كمال الطويل» وغيرهم. كانت السينما بالتأكيد فرصة استثنائية لها لكي تلمع غنائيا وأغلب المطربين والمطربات كانت السينما بالنسبة لهم هي القناة التي تحمل لهم فرصة لتقديم الأغنية التي تخضع للموقف الدرامي لأن البديل الذي كان متاحا في تلك السنوات هو الأسطوانة والإذاعة فقط، إلا أن رصيدها مع الزمن ظل يشهد لها كممثلة، على عكس الفنانات من جيلها أو اللائي سبقن «هدى» حتى الرجال من المطربين.

مثلا كانت السينما بالنسبة لليلى مراد و«أسمهان» و«فريد» و«فوزي» و«عبد الحليم» وقبل ذلك «أم كلثوم» و«عبد الوهاب» وسيلة لتقديم أغنيات. قدمت «ليلى مراد» مثلا 28 فيلما تتشابه أدوارها وربما يختلط علينا الأمر بين فيلم وآخر، ولكن ما يعلق بالذهن أكثر هو الأغنيات التي قدمتها «ليلى مراد».

أما «هدى سلطان» فإن المخرجين الذين تعاملوا معها كانوا يفكرون أولا في الممثلة «هدى سلطان» وبعد ذلك تأتي المطربة «هدى سلطان» لأنهم تعاملوا مع ممثلة موهوبة. مثلا «جعلوني مجرما» لعاطف سالم غنت «إن كنت ناسي أفكرك» كلمات «محمد علي أحمد» وألحان «رياض السنباطي». أغنية لا تنسى على مستوى الكلمة واللحن والأداء وقدمها المخرج «عاطف سالم» في الفيلم بأستاذية وحرفية عالية، إلا أن «جعلوني مجرما» كفيلم يظل مسيطرا علينا، القضية وأداء الممثلين «هدى سلطان» و«فريد شوقي» و«يحيى شاهين».

في «رصيف نمرة 5» للمخرج «نيازي مصطفى» غنت مثلا «عمري ما دقت الحب غير لما حبيتك» كلمات «مأمون الشناوي» وتلحين «محمد عبد الوهاب» أغنية أستعيدها دائما لكن الفيلم لا يزال مسيطرا. هل من الممكن لأحد وهو يؤرخ للسينما المصرية أن ينسى تلك الرائعة «امرأة على الطريق» للمخرج «عز الدين ذو الفقار». غنت «هدى سلطان» في الفيلم ثلاث أغنيات منها «صابر يا صابر» تأليف «فتحي قورة» وتلحين «منير مراد» ولكن الناس من فرط صدق أداء «هدى سلطان» في واحد من أهم – إن لم يكن الأهم – دور إغراء في تاريخ السينما المصرية في هذا الفيلم الذي شاركت فيه البطولة «شكري سرحان» و«رشدي أباظة» وتسبب في مأزق عائلي بين «هدى سلطان» و«فريد شوقي» لأنه كان المرشح الأول لكي يؤدي هذا الدور الذي لعبه بعد ذلك «رشدي أباظة». «فريد» كان قد ارتبط بفيلم آخر في نفس التوقيت وطلب التأجيل ورفض «عز» وأصر على التصوير، واعتقد «فريد» أن «هدى» سوف تنحاز إلى موقفه وتطلب التأجيل وتضع «عز» أمام اختيار واحد وهو تأجيل التصوير، ولكن من فرط إعجاب «هدى» بالدور انحازت إلى موقف «عز» ضد «فريد» ولعبت أهم أدوارها على الشاشة في مرحلة الشباب وشهد منزل «هدى» و«فريد» أول صراع عائلي بينهما وإن كان بالطبع لم يؤد وقتها إلى الطلاق.

وحكى لي الشاعر الغنائي الراحل «عبد الوهاب محمد» الذي كان في تلك السنوات صديقا مقربا إلى «فريد» و«هدى» أنه كان هو والملحن «بليغ حمدي» شاهدين على واقعة الصلح بين «هدى وفريد» عندما استمعا إلى «بليغ حمدي» وهو يردد كلمات الأغنية التي كتبها «عبد الوهاب» ولحنها بليغ لأم كلثوم ولكن قبل أن تشدو بها أم كلثوم استمع «فريد» و«هدى» إلى كلمات وموسيقى «أنا وانت ظلمنا الحب بأيدينا وجينا عليه وجرحناه.. محدش منا كان عايز يكون أرحم من التاني ولا يضحي عن التاني»، وبكى الزوجان وعادت الحياة الفنية بينهما ولكن من الممكن أن تقرأ هذا الموقف على هذا النحو الذي يدل إلى أي مدى كانت «هدى سلطان» عاشقة للفن. رغم حبها لزوجها في تلك السنوات فإنها لم تضح بالدور من أجل الزوج أو الحبيب!! في مشوارها أفلام لم تغن فيها مثل «شيء في صدري» لكمال الشيخ أمام «رشدي أباظة» و«شكري سرحان»، و«عودة الابن الضال» ليوسف شاهين. حتى اللقاء الأخير لها مع الجمهور في السينما مع «من نظرة عين» لإيهاب لمعي ولكن لم تنس «هدى سلطان» أنها مطربة رغم طغيان وسيطرة الممثلة الموهوبة «هدى سلطان» على المطربة «هدى سلطان»، وأتذكر لها موقفين غنت فيهما الأول في ندوة أقامتها نقابة الصحافيين لمسلسل «أرابيسك»، وكانت قد لعبت دور أم حسن أرابيسك «صلاح السعدني» وطلب منها الصحافيون أن تغني فلم تتردد وأمسكت بالميكروفون وغنت «إن كنت ناسي أفكرك».

الموقف الثاني حدث قبل 15 عاما عندما أقام الراحل «سعد الدين وهبة» باعتباره رئيسا لمهرجان القاهرة احتفالية لاختيار أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما وكان لهدى سلطان من بينها 7 أفلام وحضرت لتكريمها وكان «فريد شوقي» في الحفل أيضا لتكريمه وفي نهاية الاحتفال لم ينس الحاضرون المطربة «هدى سلطان» وصعدت على المسرح وغنت أيضا «إن كنت ناسي أفكرك» ووضعت يديها على كتف «فريد شوقي». رغم أن التكريم لهدى سلطان الممثلة إلا أن الناس لم تنس المطربة «هدى سلطان».. ومن ينسى؟! تزوجت «هدى سلطان» قبل «فريد» مرتين وبعد طلاقها من «فريد» تزوجت من المخرج المسرحي «حسن عبد السلام» وتزوج «فريد» قبل «هدى» 3 مرات وبعدها تزوج مرة أخرى من أم ابنتيه «رانيا» و«عبير» ورغم ذلك فإن «فريد» و«هدى» ظلا بالنسبة لنا الزوجين العاشقين وأتذكر أنه بعد رحيل فريد عن الحياة قبل 13 عاما وكان بين «فريد» و«هدى» مشكلات مادية بسبب الأفلام التي أنتجتها الشركة المشتركة بينهما، تنازلت بعدها هدى عن كل قضاياها.

جدير بالذكر أن الفنانة الكبيرة هدى سلطان من مواليد 25 مارس (آذار) 1925 في إحدى قرى محافظة الغربية، وتوفيت في 5 يونيو (حزيران) عام 2006، بعد عطاء فني تجاوز النصف قرن.

فهل ننسى في زحام الحياة من أيقظت ذاكرتنا وصوتها يداعب مشاعرنا مرددا «إن كنت ناسي أفكرك»!!