الطقطوقة.. موروث فني مغربي تعرض للتهميش

الجبليات يتميزن بزي يعود تاريخه للعهد الأندلسي

TT

لا تستقر الأغنية الشعبية في المغرب على نمط أو صنف أو لون واحد، فهي تتنوع مع التنوع الجغرافي والطبيعي من شرق البلاد إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.. غناء متنوع ومتعدد، حيث يشكل أحيانا لكل منطقة غناؤها الخاص بها إيقاعا وكلاما وعزفا، مع التنوع اللغوي بين اللهجات الدارجة المحلية والأمازيغية مثل «تامازيغت، وتاشلحيت، وتاريفت..». عرفت كل منطقة في المغرب باختلاف الموروث الثقافي والحضاري، وفي شمال المغرب توجد عادات وموسيقى خاصة تسمى بـ«الطقطوقة الجبلية» أو «العيطة الجبلية».

اختلف الباحثون في أصل تسميتها بالطقطوقة الجبلية؛ فمنهم من يرجع ذلك إلى الإيقاع الذي تتميز به الأغنية الجبلية بـ«طق طق»، ولاعتبارها أغنية خفيفة وسهلة الحفظ؛ إذ تتركب من مذهب ومجموعة أغصان، وتصاغ كلماتها باللهجة العامية، كما أنها سهلة اللحن والإيقاع. وتضاف إلى كلمة «طقطوقة» كلمة «الجبلية» ليتم تحديد هويتها وانتمائها للمنطقة. ومنهم من يربط هذه التسمية بطلقات البنادق أثناء الحروب والحفلات التي تقام خلال المهرجانات الشعبية والمناسبات.

وهناك اعتراض على تسمية «الطقطوقة»، حيث يرى البعض أن اتخاذ اسم «الطقطوقة» غير صحيح لأن «الطقطوقة» نوع من الموسيقى الشرقية الأصل وجمعها «طقطوقات»، فقد اعتبروا أن المغرب عرف هذا النوع من الموسيقى عن طريق توافد بعض الموسيقيين الشرقيين، خاصة المصريين والسوريين منهم، لإحياء بعض حفلاتهم بالمغرب. كما يعتبرون أن الطقطوقة لون من ألوان الغناء العربي عرف بمصر في الأربعينات من القرن الماضي.

فن «العيطة» في مفهومه الأصلي والقديم يعني النداء؛ نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف لتحريك واستنهاض همم الرجال واستحضار واستدعاء ملكة الشعر والغناء. وهي تعتبر مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع وأنماط العيطة نفسها.

إن العيطة أشبه ما تكون بالقصة المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للزيادات والتحوير. فهي ذلك الغناء الذي يبتدئ بنداء، وفي اللوازم تتخلله نداءات إلى جانب كونه غناء مركبا لا يحتمل الجزء الواحد، ويغلب عليه طابع الارتجال الحر، يزيدونه ثراء ونماء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآس وأفراح، فقد أصبح من الصعب الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.

فيمكن القول إن التأليف بدأ فرديا على يد فرد، واستمر أيضا يقوم به أفراد، ولكنه انتهى إلى أن أصبح جماعيا، فقد اختفى الفرد وتسلل المجتمع تسللا غير محسوس إلى الدائرة، وقلما نتعرف في فنون العيطة على اسم المؤلف.

تنقسم العيطة إلى خمسة عيوط رئيسية وهي: «الجبلي، الحصباوي، المرساوي، الحوزي، والدوايس».

تتميز العيطة الجبلية بأنها سهلة الأداء والعزف إلى درجة تجعل جميع الشيوخ يغنون «الجبلي»، فهي لا تتوفر على فصول كثيرة، كما تتميز بليونتها ورقتها إلى درجة أن المستمع للعيطة الجبلية يطرب وينجذب بخلاف العيوط الأخرى الخشنة.

ويعتبر هذا النمط انعكاسا لما يرتبط به الإنسان الجبلي من طبيعة وتقاليد وعادات، فهذه الأغنية النابعة من أعماقه تتغنى بالأرض وجمال الطبيعة، وتتناول في موضوعاتها كل ما هو معيش من معاناة وأفراح وصراعات، كما ساهمت في الماضي في التحرير ومقاومة الاستعمار الإسباني، وإيقاظ الروح الوطنية والقومية لدى الإنسان الجبلي.

ومن هنا لا بد من إدخال الطقطوقة الجبلية ضمن في مجال العيطة من حيث التعريف الذي يعتمد النداء كمرجع في التسمية والذي نجده في العيوط بمختلف أنماطها وأنواعها. إن الطقطوقة الجبلية تقدم صورة رقيقة عن الزراعة والرعي اللذين احتضناها، ولا تذهب بعيدا في التوضيح، إنما تقتصر على الإشارة العابرة لبعض المكونات البيئية، كتمجيدها وإطرائها صفات الشجاعة والإقدام التي تكون مطلوبة في رجال القبائل وسادتها خلال الحقب المتقلبة من تاريخ المغرب. اهتمت الطقطوقة الجبلية بتقديمها المشاهد الجغرافية، حيث يكثر ذكر الجبال والوديان والسهول وأسماء القبائل الجبلية، وألقت النظر على المشهد التاريخي بذكرها لأشهر الأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة الشمالية خلال فترة الاستعمار، ولم تكتف بذلك؛ فقد ذكرت أبرز الأولياء الصالحين الذين لا تكاد تخلو منهم أي مدينة أو قرية مغربية. كما حظيت المرأة بمكانتها في الطقطوقة الجبلية، حيث ذكر اسم «شامة» الذي يضاهي اسم «ليلى» في الشعر العربي الفصيح، في إطار غزل عذري غاية في العفة والحياء والطهر. انتشر هذا اللون في مدن شمال المغرب بمدينة تطوان وطنجة وشفشاون والعرائش والقصر الكبير. ويرجع موطن الطقطوقة إلى قرية تقع في ضواحي مدينة القصر الكبير تسمى «زهجوكة»، وقد أصبحت هذه القرية مقصدا لكل متعلم، وباحث في هذا الفن الشعبي.

وينسب تعلقهم بهذا اللون لانتسابهم للولي الصالح أحمد الشيخ، فهو والٍ جاء إلى المنطقة في القرن الثامن الميلادي، ويقال إنه أول من أدخل الإسلام للمنطقة.

ويعتبر الفنان محمد العروسي سيد الأغنية الشعبية، والمتربع على عرش الطقطوقة الجبلية دون منازع، فهو قطب من أقطاب الثقافة الشعبية بشمال المغرب. ينحدر العروسي من أسرة فلاحية محافظة بإقليم تاونات، بدأ مسيرته الفنية في سن مبكرة، حيث غادر الكتّاب القرآني رغم معارضة والديه، والتحق بشيوخ التراث الشعبي قصد تعلم أصول الغناء والتطريب.

العيطة الجبلية مهددة بالانقراض.. هذا التراث الشعبي الذي يعد إحدى وسائل التعبير عند سكان منطقة الشمال الغربي من المغرب، فقد حافظت الذاكرة الشعبية على قسط صغير منه، بينما تعرضت الأقساط الأخرى إلى الضياع وسط مستنقع الإهمال والنسيان من جهة؛ وغياب التوثيق من جهة أخرى.

وهذا ما دفع بأهالي تلك المناطق بطلب توثيق هذا التراث بشكل علمي، كما أن المهرجان الوحيد الذي له صلة بهذا التراث والذي يقام كل سنة بمدينة طنجة، يعد ذا مستوى ضعيف، من بين كل المهرجانات، فهو الوحيد الذي يعاني منظموه كل عام من أجل توفير الإمكانات الضرورية لاستضافة الضيوف وتوفير تعويضات ولو رمزية للمشاركين فيه. فالمهرجان يلهث كل مرة من أجل الحصول على القليل من الدعم.

وارتبط الزي المغربي التقليدي في أذهان البعض بصورة «الجلابة»، سواء كانت نسائية أم رجالية. لكن الحقيقة أن اللباس المغربي متنوع بتنوع مناطقه كما أن بعضه تأثر بثقافات مختلفة.

ففي منطقة الشمال أو ما يعرف بالمنطقة الجبلية تضع النساء على الجزء السفلي من أجسادهن ثوبا مخططا بالأبيض والأحمر يسمى المنديل، فهو لباس تقليدي لكبرى القبائل المغربية، ويرجع هذا الزي إلى الأندلس، فهو المنديل الذي حملت الأندلسيات فيه أغلى وأثمن ما كان بحوزتهن عندما طردن من الأندلس ليخترن المغرب وجهة لهن. وما زالت نسوة القبائل الشمالية يتوارثن حياكة الزي الأندلسي جيلا بعد جيل.

ويسمى هذا المنديل بلهجة الجبليات «أتازير»، ويلف حوله حزام عريض يلف لعدة مرات على الخصر ويسمونه «الكرزية»، وهو عبارة عن حزام تأتزر به النساء الجبليات حيث يسترجعن به تاريخ حضارة وأيام مشرقة مضت، ويصاحب هذا الزي النسوي الجبلي فوطة ناصعة البياض، يضعنها على أكتافهن، كما يضعن على رؤوسهن قبعات تسمى «الشاشية»، تكون مزينة ببعض الألوان الزاهية وبعض العقد المنسدلة. أما الزي الرجالي، فهو عبارة عن جلابة قصيرة وفضفاضة نوعا ما تسمى «القشابة».