«الفاجومي» من سجن طرة إلى ميدان التحرير

أحمد فؤاد نجم.. بلا محاذير

ملصق فيلم «الفاجومي»
TT

مشروع فيلم «الفاجومي» الذي عرض في القاهرة قبل يومين يحمل فكرا مغايرا لما دأبت عليه دراما السيرة الذاتية، حيث إنك ترى لأول مرة بطلا يتورط في أفعال، عدد منها مرفوض اجتماعيا ودينيا، بل وجنائيا، ورغم ذلك وافق صاحب السيرة على أن يذكر الكثير منها. صحيح أنه وبنفس القدر حرص على أن يضع نفسه في دائرة البطل الشعبي ابن البلد الشهم الشجاع، وكثير مما يذكره أحمد فؤاد نجم في مذكراته وقائع عاشها الكثير من شهود العيان، إلا أن هناك ولا شك من سوف يرى جوانب أخرى من الصورة قد تحيل البطل في لحظات إلى خائن.. زاوية رؤية الواقع في كثير من الأحيان هي التي تحدد طريقة تعاطينا معه!! فيلم «الفاجومي» للكاتب والمخرج عصام الشماع بمقياس وقواعد السينما المصرية لم يكن من السهل أن يرى النور، وهكذا ظل يتلكأ على مكاتب المنتجين.. انتقل من نجم إلى آخر ومن شركة إلى أخرى، كان من أشهر الذين ارتبط اسمهم بالفاجومي في مراحل مختلفة على مدى تجاوز 15 عاما كل من عادل إمام ثم أحمد زكي.. عادل تحمس في البداية، ولكن انفلات لسان أحمد فؤاد نجم وهجومه على حسني مبارك والعائلة أخاف عادل إمام من الاقتراب، ولهذا تراجع بسرعة حتى لا يقترن اسمه بشاعر مشاغب يرفضه النظام الحاكم.. عادل لديه دائما حسبة أخرى متعلقة بالموقف الرسمي للنظام، وحيث إنه لا يستطيع أن يحجم أو يؤقلم أو يقلم آراء نجم، كان الحل الوحيد هو أن يبتعد عن الأمر برمته.

انتقل المشروع بعد ذلك إلى أحمد زكي. لم تكن لدى أحمد تلك الحسبة السياسية، رغم أنه لم يكن بالتأكيد معاديا للنظام، إلا أنه أيضا كان يحرك بوصلته الفنية نحو العمل الفني الذي يشغل بداخله ومضة الإبداع.. وأحمد كان لديه شغف بتقديم الشخصيات التي لعبت دورا مؤثرا في تشكيل وجداننا على المستوى السياسي والفني، ولهذا انتقل من عبد الناصر إلى السادات إلى عبد الحليم، وكان أحمد فؤاد نجم أو «الفاجومي» كما أطلق عليه أصدقاؤه هو المحطة القادمة له. ولكن توقف أحمد زكي أمام واقعتين رفض أن يتضمنهما الفيلم، وهما قصيدة نجم «كلب الست» التي هاجم فيها أم كلثوم، عندما عقر كلب يحرس فيلتها مواطنا مصريا فقيرا كان يسير بجوار فيلتها في الحي الراقي الزمالك المطل على النيل. القصيدة كانت تسخر من أم كلثوم.. ولهذا لم يتحمس لها أحمد زكي..

الواقعة الثانية هي علاقة نجم بالمطرب عبد الحليم حافظ، حيث كان نجم في مرحلة الطفولة زميلا في الملجأ مع عبد الحليم، وربما لأن عبد الحليم كان يتحرج أن يذكر سنوات الملجأ في كل أحاديثه، فإنه لم يقبل أن يغني له أي أغنيات مثلما غنى للشاعرين صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي..

كان الموسيقار كمال الطويل، صاحب الرصيد الأكبر من أغنيات عبد الحليم الوطنية، شديد الحماس لكي يغني عبد الحليم من شعر نجم، ولكن أمام تعنت حليم لم يحدث اللقاء الفني.. اعتقد أحمد زكي أن تقديم هذه الوقائع سوف يخصم من العمل الفني لأنه ينتقد قيمتين يمجدهما المصريون والعرب، وتمسك نجم بموقفه مؤكدا أن هذه هي الحقيقة، فلماذا لا يراها الناس؟.. وتوقف المشروع أمام تلك الصخرة!! وتعددت المحطات التي انتقل إليها الفيلم، وكان السؤال الذي يتردد: هل الجمهور يقبل على مشاهدة حياة شاعر، مهما بلغت شهرته؟ فهي لا يمكن أن تصل إلى نجوم الفن والكرة والسياسة، إلا أن تلك النظرة القاصرة التي كانت تطل بين الحين والآخر لم تؤدِّ إلى وأد المشروع الفني حتى انضم إلى المشروع الكاتب والمخرج عصام الشماع.. اعتبر الشماع أن هذا هو مشروعه الفني مهما كانت العقبات، والغريب أن السيناريو الذي قدمه الفيلم لم يتضمن واقعتي أم كلثوم وعبد الحليم!! ستظل حياة المشاهير والسياسيين في عالمنا العربي محاطة بالكثير من المحاذير عند الاقتراب منهم دراميا.. لا يطيق الفنان صاحب السيرة ولا ورثته سوى أن يرى وجها واحدا له، فهو البطل الإيجابي القوي عند الشدائد، المناضل عند اللزوم، القادر عندما ينهار الآخرون، الرحيم وقت أن يقسو الزمن على الجميع.. الكل يريد أن يرى وجها مشرقا، ربما باستثناء حياة أسمهان التي قدمت في مسلسل قبل ثلاث سنوات، شاهدنا خلاله فنانة تحمل ضعفا وتتورط أحيانا في بعض الأخطاء الشخصية والفنية، باستثناء ذلك لم نرَ في الأعمال الأخرى سوى وجها واحدا فقط!! في فيلم «الفاجومي» اختار عصام الشماع أن ينطلق من نقطة درامية ساخنة، وهي تورط أحمد فؤاد نجم، الذي أطلق عليه اسم درامي على نفس إيقاع اسمه الحقيقي وهو «أدهم فؤاد نسر» وأدى دوره خالد الصاوي، شارك في واقعة سرقة ونصب.. حيث يستغل أن الدولة المصرية كانت في نهاية الخمسينات تدعم بعض السلع ومنها الأقمشة لبيعها بأسعار رمزية لمحدودي الدخل.. وشارك نجم أو «نسر» كما أطلق عليه في الفيلم في تلك الصفقة المحرمة.. الجريمة أودت به إلى السجن، صحيح أنه طبقا للسيناريو قاوم الانزلاق إلى تلك الصفقة، ولكن في النهاية استسلم للغواية. وفي السجن اشتعلت موهبته الفنية وصار يلقب بالشاعر السجين بعد أن ساعده أحد الضباط على نشر الديوان، وبعد عدة سنوات خرج من السجن ليبدأ مشواره في النضال الوطني..

ويقدم السيناريو حالة توافق بين حال الأمة وأشعار نجم التي كانت تعبر عن كل المتغيرات في المجتمع المصري طوال عقدي الستينات والسبعينات، الفترة الزمنية التي تناولتها أحداث الفيلم.. مثلا الحرب في 67 شكلت نقطة فارقة، وكيف أننا قبل الهزيمة كنا نراها مجرد نزهة مضمونة، وأن صواريخ مثل «القاهر» و«الظافر» وهما صاروخان أعلنت القيادة السياسية أنهما قادران على تحطيم إسرائيل تماما وإلقائها - كما كان يصدر الإعلام وقتها - في البحر.. وبالطبع كشفت الحرب أننا كنا نعيش الوهم.

أشار السيناريو إلى أن كبت الحريات والتضييق على أصحاب الرؤية المخالفة لتوجهات عبد الناصر كان يؤدي بصاحبه إلى السجن.. تجمعت الشخصيات الإيجابية في ملامح رسام الكاريكاتير حجازي، التي أداها زكي فطين عبد الوهاب، الذي كان النافذة التي أطل منها نجم على الكثير مما كان يجري في مصر. كما أنه فتح له أبواب القراءة لأن الفطرة الإبداعية مهما بلغت من تفرد تظل قاصرة على أن تصل إلى القيمة الإبداعية لو لم يتم مدها دائما بقدر من الثقافة.. لم ينكر نجم في مذكراته أنه كان يفتقر إلى تلك الثقافة، ولعب فنان الكاريكاتير حجازي دوره في هذا المجال!! العلاقة بين الدولة والمثقف استندت إلى نظرية الاحتواء، وهو أسلوب تلجأ إليه كل الحكومات الديكتاتورية.. أي أنها تمنح المثقف جزرة مقابل أن يتوافق مع النظام، وعندما يقبل الجزرة توقف استخدام العصا. وغالبا ما تستعين الدولة بمثقف يصبح هو بمثابة حلقة الوصل، وهذا هو بالضبط ما فعله ناقد وصحافي قدمه الفيلم باعتباره قريبا من السلطة، أدى دوره تامر هجرس وأطلق عليه اسم حركي وهو إلهامي الدمرداش، على إيقاع اسم بطل الواقعة الحقيقية الراحل رجاء النقاش، حيث إنه قدمه في حوار مع وزير الداخلية الأسبق شعراوي جمعة الذي أدى دوره محمود قابيل، وهو يتعهد بالتدخل وإقناع الشاعر نجم ورفيق كفاحه الملحن الشيخ إمام عيسى، الذي أدى دوره صلاح عبد الله باسم الشيخ همام موسى، بأن يصبحا جزءا من الإعلام الرسمي. وهكذا يتقدمان للإذاعة والتلفزيون، ويصبح المطلوب هو أن يقدما فنا يتوافق مع ما تريده الدولة..

رأينا الشيخ إمام يتورط أكثر في الاتجاه ناحية الدولة ويقدم إعلانات، بينما نجم يبتعد ويشعر أنه يخون ضميره. إلى أي مدى هذه هي الحقيقة؟ ألم يشعر أيضا نجم ببعض لحظات الضعف تجاه الدولة التي تمنحه الشهرة والفلوس وهو بحاجة إليهما؟ تلك هي المعضلة.. ولكن لم يقدم لنا السيناريو أي ملامح ضعف عاشها نجم، وظل السيناريو يجمع بين تقديم نجم الشاعر ونجم التاريخ الذي عاشه، ثم نجم الإنسان الذي يبحث عن أنثى، وكانت شخصية صاحبة البيت التي أدتها جيهان فاضل هي التعبير المباشر عن الشبق الجنسي الذي عاشه نجم.

والتقى في الرحلة مع زوجتين، الكاتبة المثقفة العائدة من أميركا صافيناز كاظم، التي أدت دورها كنده علوش باسم ماهيتاب قدري، ثم المطربة عزة بلبع التي قدمها باسم منة ولعبت دورها فرح يوسف. تتواصل الأحداث حتى 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977، الانتفاضة الشعبية التي وصفها السادات بأنها انتفاضة حرامية.. والغريب أن المخرج يقدمها وهي تحمل الوجهين، فهي انتفاضة ثوار وانتفاضة حرامية أيضا، لأن الكاميرا قدمت مشاهد لعدد من الحرامية والنصابين الذين ينهبون المحلات. وينتهي الفيلم بأحمد فؤاد نجم داخل ميدان التحرير في 25 يناير والزمن رسم بصماته على وجهه وهو يردد قصيدته الشهيرة «كل ما تهل البشاير من يناير»!! لم يكن هناك مبرر درامي لتغيير الأسماء، الشيخ إمام عيسى يصبح الشيخ همام موسى، وعزة بلبع تصبح منة، ونجم يصبح نسر، وهكذا، لأنه على الجانب الآخر يقدم شخصيات باسمها مباشرة، مثل فنان الكاريكاتير حجازي.. إنه تغيير لا محل له من الإعراب الفني، حتى لو كان من أجل الحماية القانونية، لأن التوافق الزمني سوف يسقط تماما أي حيلة درامية.. المسألة القانونية عن الوقائع واردة، خصوصا وأن عددا كبيرا من شهود هذه الوقائع أحياء يُرزقون.. فما الحكمة أن يشاهد الناس فيلما اسمه «الفاجومي» والكل يعلم أن الفاجومي هو أحمد فؤاد نجم، ثم يصبح نجم هو نسر؟! قدم المخرج خطا دراميا لانتقاد الجماعة الإسلامية يذكرني بكل الأفلام السابقة على الثورة، والتي نرى خلالها تلك الانتقادات التقليدية لها، كان ينبغي للمخرج أن يستند إلى رؤية مخالفة لتلك التي ارتبطت بزمن حسني مبارك.. قيمة العمل الفني أنه يتناول حياة مصر وليس صراع جماعات إسلامية مع نجم أو نسر كما أطلق عليه الفيلم!! قدم خالد الصاوي دوره بدرجة من الوعي الإبداعي، لم يكن مقلدا لنجم بقدر ما أمسك بمفردات الشخصية الداخلية، تلك البوهيمية والشهوانية والتدفق الشخصي الفني والاندفاع الذي يصل إلى حدود التهور، بينما بهتت تماما شخصية الشيخ إمام التي قدمها صلاح عبد الله من المحفوظات العامة لشخصية الأعمى خفيف الظل، كان بالفيلم مفاجأة وهي جيهان فاضل التي تقمصت شخصية بنت البلد بإحساس ومزاج خاص!! لم تكن لدى المخرج رؤية إخراجية واضحة، لم أستشعر ذلك سوى في قصيدتين ألقاهما خالد الصاوي.. وأحال المخرج عصام الشماع الرؤية البصرية والصوتية لتحمل في عمقها مفردات القصيدتين، أيضا تجاهل السرد التاريخي لحياة نجم التأثير العربي لظاهرة نجم وإمام، لأن قيمة نجم وإمام أنهما كانا ظاهرة عربية، صارا هما الوقود الحي لكل الثائرين العرب.. عاب الفيلم الفقر الإنتاجي الذي حال دون أن نصدق مثلا أننا في باريس عندما أقام نجم وإمام حفلا هناك!! ورغم ذلك فإن هذا هو أول فيلم عربي يعرض في مصر بعد ثورة 25 يناير، وأستشعر أن وجود الثورة التي أضيفت في المشهد الأخير لها منطقها الفني، لأن نجم كان أحد أهم الأصوات التي أرهصت للثورة في 25 يناير. انتهت أحداث الفيلم دراميا في يناير 77، ولكن تلك القفزة الزمنية إلى 25 يناير 2011 كانت منحة قدرية يستحقها تاريخ نجم.. لقد بدأ الفيلم ونجم في سجن طرة، وانتهى ونجم في ميدان التحرير، بينما عدد كبير من الفاسدين انتقلوا الآن إلى سجن طرة!!