«كف القمر» افتتح مهرجان الإسكندرية.. عندما تصنع الشعوب الديكتاتور

خالد يوسف وغادة عبد الرازق واللقاء الأخير

الفنان خالد صالح بطل فيلم «كف القمر» («الشرق الأوسط»)
TT

عندما تشاهد فيلما سينمائيا فمن المنطقي أن تستوقفك القصة وتتابع الأبطال على الشاشة وتنفعل.. تضحك، تبكي، تلهث معهم.. لكن بعض الأعمال الفنية لا تكتفي بهذا القدر، لكنها تطرح بين ثنايا العمل الفني رؤية أبعد من الخط الدرامي المباشر، ترى من خلالها واقعا تعيشه وأحداثا لا تزال تنبض بالحياة، وأتصور أن فيلم «كف القمر» من بين تلك الأفلام التي تمنحك مساحة زمنية ورحابة فكرية تدفعك لكي تتأمل ما تراه أمامك من خلال رؤية أوسع وأعمق تتجاوز مجرد متابعة الحدوتة.

من يصنع الديكتاتور؟ إنهم البشر الذين يبحثون عمن يتولى المسؤولية عنهم، ويخضعون له بالولاء المطلق.. في «كف القمر» مزج المخرج خالد يوسف بين أصابع الكف الخمسة واسم بطلة الفيلم «قمر» التي أدت دورها وفاء عامر.. وهذه الأصابع ترمز لأبنائها الخمسة الذين تولت هي المسؤولية الكاملة عنهم بعد مقتل الأب أثناء بحثه عن كنز الذهب، حيث دأب أهل القرية على الذهاب إلى أحد الجبال في أقاصي الصعيد.. ولأن العثور على الكبير هو الهاجس الدائم فينبغي أن تسلم مقاليد القيادة والحكم والسلطة إلى شخص واحد.. يصبح الأخ الأكبر الذي أدى دوره خالد صالح هو المسيطر على الجميع، الكل يقع تحت طائلة قانون العبودية لشخص يتحول إلى إله يأمر فيطاع، ويمارس هو تلك السطوة على الجميع باعتبارها حقا مطلقا له.. لقد صار هو الأب البديل!! الفيلم يناقش تلك المعضلة: هل نحاكم فقط الحاكم المستبد، أم أن من صنعوا استبداده يستحقون قبله العقاب لأنهم أيضا شاركوا بالخضوع والاستكانة فنصبوه طاغية عليهم؟!.. نحن نلوم الحاكم لأنه سرقنا، ولا نلوم أنفسنا لأننا سكتنا على السرقة. تمر علينا سنوات ونجن، نرى الفساد ونكتفي بإحصاء عدد سنواته، وبدلا من أن نقاومه نكتفي بالصمت.. الساكت عن الحق شيطان أخرس، من يرى ويغمي عينيه، ومن يسمع ويصم أذنيه، هو أيضا شيطان أخرس.. الشعوب المستكينة والقانعة ليسوا ملائكة يستحقون الشفقة، بل هم مذنبون يستحقون العقاب!! الأم «قمر» يتفرق أبناؤها في القاهرة، انتقلوا من أقاصي الصعيد بحثا عن لقمة العيش.. حرص الكاتب ناصر عبد الرحمن والمخرج خالد يوسف الذي شارك في كتابة السيناريو، على ألا يحدد المكان بأسلوب قطعي، فأنت ترى قرية في جنوب مصر لكنها لا تشير مباشرة إلى الموقع، وينتقل الأبناء الخمسة إلى القاهرة من دون أن يتم تحديد الزمان أيضا.. نعم أحداث الفيلم تشعرك بأننا نعيش هذه الأيام، ولكن لا أغنية حديثة، ولا جوال يقول إننا نتحدث مثلا عن السنوات العشر أو العشرين الأخيرة، لكن كل ذلك تراه في الفيلم، تعيش الزمن الحالي وتعيش أيضا ملامح مصر في نصف القرن الأخير.. إنها شهادة على زمن وليس فقط مرحلة زمنية! الشخصيات الخمس في الفيلم تعبر عن تباين في التكوين النفسي والفكري، يجمعهم الخضوع للأخ الأكبر الذي أدى دوره خالد صالح، إلا أن الأمر ظل يتباين بين الرغبة في التحرر خارج قيود السلطة الأبوية، والخوف من التحرر من تلك السلطة لأن هذا يعني أن الشعب امتلك إرادته.. أكثرهم جرأة في رفض القيود كان الشقيق الأصغر الذي أدى دوره هيثم زكي الذي توجه إلى حب الراقصة حورية فرغلي غير عابئ بتعارض ذلك مع القيم التي تربى عليها، وبعيدا عن الحكم الأخلاقي على هذا السلوك يظل المعنى الذي طرحه الفيلم هو التمرد باعتباره أحد دوافع رفض الخضوع، ولهذا نراه يرقص أمام حورية بالتنورة، لكنه يعيش الحياة التي يرى فيها نفسه، ثم ينتقل في لحظات عصيبة بعد أن أمسكت به المعوقات إلى الموالد ليشارك في الذكر الديني.. إنه لا يزال يبحث عن ذاته المنقسمة، نراه في لحظة مثلا يستجير بالجبل هاربا لكنه أيضا لا يترك الرقص بالتنورة.. وفي لحظة أخرى يتوجه إلى الموالد حيث الذكر الدائم لأولياء الله الصالحين يشعره في نهاية الأمر بالسعادة.. إنه لا يدري إلى أين ترسو روحه.

وصية الأم تبدأ بها الأحداث، حيث إن أكثر من 90 في المائة من زمن الفيلم هو «فلاش باك»، عودة للماضي، عندما تطلب الأم من ابنها الكبير أن يعيد إخوته إليها.. إنها تريد أن تعيش مرة أخرى وهي في إطار هذا الدفء الذي تبثه العائلة التي حرمت من تلاقيها مرة أخرى بعد أن تباعدت الأهداف والمشارب.

حرص السيناريو على تقديم الأب المقهور، أقصد الشقيق الأكبر الذي صار هو بديل الأب (خالد صالح)، وهو أيضا يعيش لحظات ضعف داخلية بعد أن أجبروه على أن يسلم زوجته غادة عبد الرازق وهي حامل.. قايضوه على أمه، إما أن يعيد ابنتهم أو عليه أن يتحمل في هذه الحالة فقدانه أمه.. إنه الذل في الحالتين، لكنه أمام قسوة الاختيار سلم زوجته وأعاد أمه.. تلك هي المشكلة التي يعيشها، فهو مهزوم ومجبر على الاستسلام، ولهذا يمارس القهر على أشقائه وكأنه يزيح القهر عن كاهله، وهو سارق ويتاجر في الممنوع ويحذر في الوقت نفسه إخوته من الوقوع في قبضة القانون، وهو يقيم علاقة جنسية مع فتاة منحرفة أدت دورها جومانة مراد وبالصدفة يكتشف أنها حبيبة شقيقه حسن الرداد، وعلى الرغم من ذلك فإنه كثيرا ما يحاسب أخواته أخلاقيا ويغض الطرف عن كل أخطائه الأخلاقية! محامي الشيطان الذي أدى دوره خالد طلعت يترافع عنه أمام الجهات المسؤولة، ويخرجه من تلك المآزق القانونية، الكل له دور يلعبه في هذا الفيلم، وهو في الحقيقة لا يلعبه فهناك دائما وجه آخر للصورة ينبغي أن نشاهده لنرى كيف تتواصل الحياة.. هل «قمر» أو وفاء عامر التي أدت دور الأم هي الوحيدة البريئة؟.. الحقيقة أنها أكثر الشخصيات، هي وابنها الأصغر، الذين نرى كيف أنهم حاولوا أن يصبحوا أنفسهم بتحدي النفس والإصرار على أن يكونوا فقط ما يريدونه في وقت يلعب فيه الكل دورا لكنهم يرتدون قناعا وثوبا آخر.. ورغم ذلك فإن الأم أيضا من زاوية أخرى هي التي فرضت على أبنائها هذا الطاغية عندما نصبته حاكما عليهم ومنحته السلطة المطلقة على أشقائه!! الأم فقدت يدها لإصابتها بالسكر بعد أن تحول الجرح إلى «غرغرينة» لا يمكن الشفاء منها إلا بالبتر، ورغم ذلك ظلت تنتظر أن تجتمع الأصابع الخمسة التي تعبر عن أبنائها الخمسة، فلم يتجمع أبناؤها إلا بعد أن أسلمت الروح، فالتقوا حول النعش كل منهم يحمله إلى مثواه الأخير، لا شيء آخر من الممكن أن يجمعهم سوى الموت.. قبلها بلحظات كان حسن الرداد (الشقيق الأوسط) يفكر في الهجرة إلى ليبيا، ويجبره الديكتاتور على أن يعود إلى الوطن بعد أن مزق جواز سفره أمام عينيه.. إنه يتجاوز كل القوانين لتحقيق إرادته ولا شيء من الممكن أن يردعه! إنهم يجبرونه على أن يخوض حربا ضد من أخذوا زوجته ورهنوا أمه، لكنه يرفض أن يشارك في حرب يدفع هو ثمنها.. تستطيع أن ترى الوطن وهو يتحرك أمامك في عناق بين التاريخ والجغرافيا، مصر والقائد الذي استسلمت له.. كانت النهاية السوداء بدفن الأم، وضياع الأم هو الذي ربما انتهى إليه الفيلم، لكن هذا يبدو لي أنه مجرد إحساس سيطر على صناع العمل عندما طرحت الثورات العربية أملا محتملا في غد يعاد فيه ترتيب العلاقات والأوراق، يحمل إرهاصة بأيام قادمة نحلم فيها بالديمقراطية بعد أن يتطهر الوطن من الطاغية.. لم يشأ المخرج أن يترك جمهوره وهو حزين لما آل إليه حال تلك الأسرة، وبأشعار فؤاد حداد وموسيقى أحمد إسماعيل يبدأ بناء البيت الذي كان يضم الأسرة وسرقه اللصوص ولم يتركوا شيئا، حتى الحيطان المهدمة أصروا على سرقتها، وكانت أغنية فؤاد حداد «طوبة حمرا» هي التي منحتنا هذا الأمل على الرغم من قتامة الأحداث.. ورغم ذلك كان هناك لون متفائل في نهاية الفيلم، الكل يبتسم، ويحصل خالد صالح مرة أخرى على زوجته غادة عبد الرازق ومعها أيضا ابنته وكأنها مكافأة من القدر بعد أن نجح في إعادة أشقائه ليشاركوا في بناء البيت مجددا! في أفلام خالد يوسف دائرة سياسية تستطيع أن تقرأها بوضوح، بدأت مع أول أفلامه «العاصفة» قبل عشر سنوات حيث كان يتناول الصراع العربي - العربي من خلال غزو العراق للكويت وتلك المدافع التي تنطلق من خلال شقيقين مصريين كل منهما يوجه مدفعيته تجاه شقيقه عامدا متعمدا، أحدهما في القوات التي انضمت لتحرير الكويت والآخر من العراق.. «خالد» يفضل المباشرة في التعبير، وتتقلص لديه مساحة الإيحاء، لا أدري هل يشك كثيرا في قدرة المتلقي على الاستيعاب إلى درجة أن يعيد أكثر من مرة المعلومة الدرامية خوفا من ألا يفك طلاسمها المتفرج رغم أنه بتلك المباشرة بدلا من يوصل إحساسه الفني للناس يثقل عليهم بهذا الإلحاح الذي يصل إلى حدود الغلظة.. كان «الريس عمر حرب» الذي كتبه هاني فوزي هو أكثر أفلامه قدرة على خلق عالم رمزي يحوي تلك الأفكار من دون أن يصرح أو يصرخ بها، بينما في أفلامه التي جمعته مع الكاتب ناصر عبد الرحمن كان أكثر مباشرة، بداية من «هي فوضى» الذي أخرجه مع أستاذه يوسف شاهين، مرورا بـ«حين ميسرة» و«دكان شحاتة»، حتى نصل إلى «كف القمر».. دائما ما يسعى خالد إلى تقديم حالة الوطن بمعناه المصري والعربي، وقد يرنو إلى الرؤية الكونية أيضا، وهو كثيرا ما يلجأ إلى أن تتناثر في جنبات فيلمه الفكرة مرة واثنتين وثلاثا.

في الفيلم رؤية بصرية وصوتية تصعد إلى الذروة في التعبير في بعض المشاهد، ثم تخبو عندما ترتكن إلى المباشرة في التعبير، وهذا يؤدي إلى ثقل إيقاع الفيلم.. وأتصور أن خالد عندما يرنو إلى الجمهور دائما ما يفكر هل الجمهور سوف يحب هذا المشهد أم لا.. المفروض أن السيناريو هو الذي يفرض مواقفه الدرامية، إلا أن «خالد» يشعرني في هذا الفيلم وغيره بأن معادلة الناس تسيطر عليه، ولهذا قد يسهب في تكرار عدد من المشاهد التي لا تحمل معلومة درامية جديدة لكنها تحمل بعدا تجاريا يفضله المشاهد! في الفيلم عناصر إيجابية على مستوى الأداء.. وفاء عامر، هيثم زكي، حسن الرداد، حورية فرغلي، والممثل الذي أدى دور المحامي «خالد طلعت».. كما لعبت غادة عبد الرازق دورها بدرجة عالية من الإحساس، ويبدو أن هذا هو اللقاء الأخير بينها وبين خالد يوسف بعد أن أصبح كل منهما بعد ثورة يناير في طريق.. كما أن أشعار جمال بخيت، وموسيقى أحمد سعد، وقدرات مدير التصوير رمسيس مرزوق في الإضاءة، قد لعبت هي أيضا دور البطولة.

الثورة منحت الفيلم أملا في القادم.. لم يشأ أن يظل السواد والضياع هو المسيطر.. لكن هل هذا هو الواقع، أم أنها أمنية تبدو الآن مستحيلة ونحن نرى أمامنا أن الديكتاتور لا يزال ديكتاتورا؟!