«أسماء».. من «أبوظبي» إلى «وهران»

هند صبري.. هل تقتنص هذه المرة الجائزة؟

الفنانة التونسية هند صبري بطلة فيلم «أسماء»
TT

بعد أن عرض فيلم «أسماء» في مهرجان «أبوظبي» في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ينتقل في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل إلى مهرجان «وهران» بالجزائر ممثلا للسينما المصرية داخل المسابقة الرسمية لهذا المهرجان في دورته الخامسة.

دائما ما تلهث المهرجانات وراء الفيلم المختلف، ولا شك أن فيلم «أسماء» هو أحد تلك الأفلام التي ينطبق عليها هذا التعبير وهو الاختلاف، فهو لا يحاكي الأفلام الأخرى في تلك الحبكات الدرامية التي تتكرر ليس فقط في سينمانا العربية ولكن الأجنبية أيضا، وهكذا تبدو مغامرة أن تقدم فيلما عن هذا المرض اللعين الذي يؤرق البشرية وخاصة في دول العالم الثالث، حيث تغيب الثقافة التي تعتبر هي بمثابة خط الدفاع الأول للوقاية من هذا المرض.

ورغم ذلك فأنا أرى أن هذا الفيلم نظلمه كثيرا لو أننا فقط اقتصرت نظرتنا إليه على الجانب الطبي في العمل الفني باعتباره يتناول معاناة مريضة بالإيدز - مرض نقص المناعة - إن هذا هو فقط ما يظهر على السطح، قمة الجبل ولكن عمق جبل الجليد المغمور هو أن نملك الإرادة للمواجهة.. أن ننظر في عين الآخر ونعلن حقيقة ما نشعر به، هذه هي القيمة الحقيقية للعمل الفني القدرة على البوح وليس فقط إعلان المرض!! هذا العمل الفني بدأ مجرد فكرة لتقديم فيلم تسجيلي عن مريضة بالإيدز.. كاتب ومخرج الفيلم عمرو سلامة كانت لديه حالة مريضة تابعها من أجل أن يقدمها في عمل فني هي وعددا من المرضى الآخرين، ولكن واجهته تلك المعضلة وهي أن مريض الإيدز في مجتمعاتنا العربية يرفض أن يراه أحد حيث تلاحقه مباشرة الاتهامات الأخلاقية رغم أن انتقال المرض من شخص إلى آخر لا يعني بالضرورة أن وراء ذلك خطيئة أخلاقية.. تشير الكثير من الدراسات إلى أن الأسباب الأخرى لانتقال المرض مثل نقل الدم أو التعرض لأجهزة ملوثة لمريض الإيدز تلعب دورا كبيرا خاصة مع غياب الوعي الطبي في العديد من المجتمعات خاصة الفقيرة التي تعاني من انتشار هذا المرض ولهذا قرر عمرو سلامة أن يحيل التوثيق إلى خيال فني فهو في النهاية يملك وجهة نظر يسعى للتعبير عنها تستند إلى واقع عاشه بكل تفاصيله، ولا بأس من أن يستعيض عن ذلك بتقديم فيلم روائي يسمح له بأن ينقل للناس حقيقة مشاعر ومعاناة هؤلاء المرضى.. بالتأكيد هناك خيال أضافه الكاتب والمخرج، ولكنه أيضا أخلص بدرجة كبيرة إلى تلك الحالة التي ارتبط بها والتزم طبقا لما ذكره بالعديد من تفاصيلها.

ويبقى اختيار فكرة مريض الإيدز كبطل أمرا يستحق أن نتأمله في نقطة الانطلاق هذه، لأن هناك ولا شك محاذير سيكولوجية تستحق منا أن نتأملها بعيدا حتى عن هذا الفيلم تحديدا، وأقصد بها العلاقة بين المتلقي والعمل الفني عندما يتناول مرضا معديا مثل الإيدز.

هل ضبطت نفسك مثلا غير قادر على النظر إلى صورة منشورة في الجريدة تشير إلى وجه تنضح عليه مثلا البثور؟!، حزنت وأشفقت نعم ولكنك أيضا على الأقل لا شعوريا كنت تخشى العدوى أن تنتقل إليك رغم أننا نتعامل مع صورة لا يمكن أن تنقل إليك المرض ولهذا لا نطيل النظر كثيرا إلى مثل هذه الصور.. أتصور أن تلك هي المعضلة التي واجهت الفيلم الروائي «أسماء» حيث إنه يتناول حياة امرأة في منتصف العقد الخامس من عمرها مصابة بالإيدز، أي إنه من البداية صنع مساحة من التباعد بين ما يقدم على الشاشة والجمهور.. ما هي معاناة مريض الإيدز في العالم إنها في تلك النظرة المحملة بالإشفاق والتي ترفع تحذيرا موجها للطرفين الناس والمريض مكتوبا عليه ممنوع الاقتراب.. كل منهما يخشى أن يقطع المسافة للآخر.. لا يزال الرعب يسيطر على الجميع عندما نضطر للتعامل مع مريض الإيدز وهو أيضا يتعامل معنا كمنبوذ، وربما لهذا السبب شاهدنا في اللقطة الأخيرة لفيلم «أسماء» البطلة هند صبري وهي تنزع القفاز عن يديها وتسلم على مقدم البرامج الذي أدى دوره ماجد الكدواني، إنها تفصيلة دقيقة ولكنها تعني أن الطرفين كل منهما عبر إلى الضفة الأخرى للثاني.. دعونا لا نقفز مباشرة للنهاية ولكن نتابع أكثر من ساعة ونصف في تلك الرحلة مع بطلة الفيلم.

المعاناة في وجهها الأقسى لمريض الإيدز تستطيع أن تلمحها في المجتمع الشرقي من خلال تلك النظرة التي تحمل اتهاما أخلاقيا لكل من يحمل الفيروس.. الفيلم يتوقف أمام تلك القضية، وهي أن الناس يسيطر عليها في العادة اتهام بالانحلال الخلقي قبل أن تحدد موقفها من المريض هل تمنحه نظرة شفقة أم ازدراء، هم يريدون أولا شهادة البراءة بأنه لم يصب بالمرض بسبب انحراف أخلاقي وبعد ذلك يحددون موقفهم منه.. ما حرص الفيلم على تأكيده هو أن تلك النظرة لا تفرق بين إنسان وآخر ولكن حتى الطبيب الذي تعاطف معها لم يقبل مساعدتها طبيا إلا بعد التأكد من أن مرضها لم يأت بسبب انحراف أخلاقي، بينما هي ترى أن من حقها فقط أن تتحفظ أو تعلن عن أسباب المرض.. لو رأيت إنسانا تلتهمه النيران لا تسأل قبل أن تطفئها عن أسباب اشتعالها ولكنك أولا تطفئها إلا أننا مع مريض الإيدز نترك النيران تلتهمه ونحن ننتظر حكما أخلاقيا وبعدها نحدد موقفنا!! هدف الفيلم هو أن يحطم المشاهد هذا الجدار، ولهذا فإن البطلة التي تحمل المرض ولكنه لا يظهر عليها تبحث عن إجراء عملية لاستئصال «المرارة» وكل المستشفيات ترفض أن تجري لها هذه الجراحة خوفا من نقل العدوى رغم أن الأمر طبيا محسوم في أسلوب التعامل جراحيا مع مريض الإيدز.. نظرة الاتهام تسيطر حتى على البسطاء الذين يتعاملون معها في المطار حيث إنها عاملة نظافة وعندما تقرر أن تقدم ملفها الطبي تسأل المشرفة زملاءها هل يقبلون أن تواصل العمل معهم وتأتي الإجابة بالرفض الجماعي، فالكل يخشى التعامل مع مريض الإيدز إلا أن المخرج أراد أن يقدم وجها آخر لـ«جدعنة» أولاد البلد.. جمعوا أموالا من القليل الذي يملكونه إلا أن الخوف ظل مسيطرا عليهم ولهذا نرى يد زميلتها العاملة وهي تضع الفلوس على أرض المطار وترفض اللمس.. الآخرون ينتظرون قبل تحديد موقفهم شهادة البراءة الأخلاقية والمريضة تشعر أن سرها من حقها.

يقدم الفيلم في بداية مشاهده تلك العلاقة بين الفتاة الحسناء (هند صبري) والشاب (هاني عادل)، حيث إن «هند» تعمل في صناعة السجاد وتبيعه في السوق، وتبدأ شرارة الحب من أول نظرة عندما ترى «هاني» الذي كان قد أوشك على إتمام الخدمة العسكرية ويتزوجان.. وبسبب تعرضها للمعاكسة في السوق يجد نفسه وقد حوكم بجريمة القتل الخطأ، وأثناء قضائه فترة العقوبة يصاب بمرض الإيدز وهو الذي كما نراه ونتأكد في سياق الأحداث وتتابعها قد نقله من دون أن يقصد أو تقصد إليها.. لقد حرص الفيلم على أن يؤكد لجمهوره أن البطلة لم ترتكب أي خطيئة وأنها ضحت بنفسها وتعرضت للإصابة بالمرض من أجل أن تنجب طفلة تحمل اسم زوجها.

وقع الفيلم في خطيئة درامية عندما أذاع السر لجمهوره ومنعه عن أبطاله، نحن كمتفرجين نعرف أنها ضحت بنفسها وأصيبت بالعدوى من زوجها عندما رفضت أن تتركه يموت، فانتقلت إليها العدوى وأنها بعد أن أخبرها الطبيب بحقيقة المرض أقامت العلاقة معه لكي تمنحه الطفل الذي يتمناه وهي طبقا لوصيته ترفض أن تبوح بسر مرضه.. لقد أضفى عليها السيناريو كل أمارات البطولة ليظل المتفرج متعاطفا معها.. المخرج روى لجمهوره ما هو ممنوع عن أبطاله وخان العمق الذي يريده أن يصل إلينا وهو أن نتعاطف مع المريض ونوفر له أسباب العلاج قبل أن نسأل عن السبب، ولكنه حتى يضمن أن الجمهور يقف عاطفيا إلى جانب البطلة قرر خيانة المبدأ الفكري على طريقة «الغاية تبرر الوسيلة».. ووقع الفيلم في تناقض بين المعنى والمبنى وتلك هي المعضلة التي لا أجد لها تفسيرا ولا تبريرا!! ورغم ذلك فلا شك أننا بصدد مخرج يملك قدرة على التعبير بمفردات السينما وذلك في ثاني تجربة سينمائية له بعد فيلمه «زي النهارده»، تفاصيل البناء الدرامي لشخصية مقدم برنامج الـ«توك شو» التي أداها باقتدار ماجد الكدواني، فهو يبدو في البداية لا يعنيه سوى أن يقدم سبقا إعلاميا ولكنه مع تسلسل الأحداث يكشف عن الوجه الآخر له وهو الإنسان القابع بداخله.. حرص المخرج على أن ينقلنا من الريف للقاهرة مع المحافظة بتفاصيل الديكور ومفردات الحوار على ملامح شخصياته الدرامية.. الكثير من اللمحات التي حفل بها الشريط السينمائي التي تستطيع أن تقرأها على الشاشة، حيث إن الفيلم بقدر ما يحمل مرارة يزرع أملا، وهو ما عبر عنه بكل المفردات الفنية في التصوير والديكور والموسيقى.. ويبقى أن المخرج عمرو سلامة تقدم كثيرا في فيلمه الروائي الثاني، وكنت قد شاهدت فيلمه الأول «زي النهارده» قبل ثلاث سنوات أيضا في مهرجان «أبوظبي»..

وستمكث كثيرا في الذاكرة هند صبري وهي تتقمص دورها بإبداع وألق في نبرة الصوت وبالإيماءة والحركة والنظرة، رغم أنها لم تحصل على جائزة أحسن ممثلة بمهرجان «أبوظبي» ولكن هذا لا يعني سوى أن لجنة التحكيم كان لها وجهة نظر مغايرة لما رأيته على الشاشة، وربما في مهرجان «وهران» من خلال لجنة تحكيم أخرى تحصل على جائزة، لأنني أرى في أدائها لهذه الشخصية حالة استثنائية في مشوارها المرصّع بالعديد من الأدوار الهامة، ولكن «أسماء» به ألق خاص.. ولا يزال ماجد الكدواني قادرا على إدهاشي في طريقة التقاطه لتفاصيل الشخصية التي يؤديها، فهو يبث الحياة في تلك الأدوار التي قد يراها البعض عادية بلا ملامح حادة، ويبرع ماجد في التحرك بنعومة تحت جلد هذه الشخصيات.. أعجبني في الفيلم هاني عادل الذي أدى دور زوج هند صبري وأيضا أحمد كمال في دور الزوج القادم لها، ونجح المخرج في أن يزرع الأمل في النفوس وأن يقترب من جبل الجليد المطمور خلف معنى أن يجهر المريض حتى بالإيدز بمعاناته، وأن نتعلم أن نقول ما في أعماقنا دون خجل أو خوف.. ورغم ذلك فأنا لا أزال أنتظر رأي المتفرج العادي بعيدا عن المهرجانات في رؤية فيلم سينمائي يتناول مرضا تعودنا أن نخشى الاقتراب منه فهل يقترب منه الجمهور؟!