«نادين لبكي» في مصر رابع مرة

«هلأ لوين» من بيروت إلى القاهرة

من فيلم نادين لبكي..
TT

من المنتظر أن تفسح السينما المصرية في منتصف هذا الشهر للفيلم اللبناني «هلأ لوين» 7 شاشات لعرضه تجاريا، بعد النجاح الجماهيري والنقدي للفيلم الذي حققه؛ سواء داخل أو خارج لبنان، وذلك منذ أن انطلق في مهرجان «كان» في قسم «نظرة ما» في شهر مايو (أيار) الماضي.

شركة التوزيع المصرية تستعد هذه الأيام لعرضه على الرقابة للحصول على الموافقة، وعلى الرغم من أنه من الممكن أن يصطدم بالقواعد الرقابية الصارمة في مصر، مع تصاعد مؤشر المحاذير الدينية وتنامي قوة التيار الديني، خاصة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، فإن العقبة الأشد صعوبة هي أن ينجح في الوصول إلى مشاعر الجمهور المصري، الذي لم يألف حتى الآن الإقبال على الأفلام العربية غير الناطقة باللهجة المصرية، وهو مأزق كانت ولا تزال الأفلام العربية على اختلاف بلدانها تواجهه.

فيلم «هلأ لوين» حقق نجاحا ضخما مع الجمهور اللبناني، وتنقل في دور العرض بنجاح كبير في سوريا والإمارات والأردن والكويت والبحرين وسلطنة عمان والمغرب وتونس والجزائر.. منذ ذلك الحين وهو يلقى إقبالا جماهيريا في العالم العربي.

مصر تظل محطة تشكل تحديا هاما للفيلم، ربما يعتقد البعض أن اللهجة اللبنانية قد تصبح هي المأزق، إلا أن السؤال لماذا حققت أغنيات الفيديو كليب التي أخرجت بعضها مثلا «نادين لبكي» للمطربة «نانسي عجرم» وغيرها نجاحا جماهيريا ضخما مع الجمهور المصري، حتى تلك التي غنتها «نانسي» باللهجة اللبنانية؟.. لم تمثل أبدا اللهجة عائقا في تقبل الأغنيات، والتاريخ المصري حافل بأغنيات لبنانية رددها المصريون لمطربين مثل «فيروز»، «صباح»، «وديع الصافي»، «نجاح سلام» وغيرهم، بل إن الممثل القديم الراحل «بشارة واكيم» اشتهر بتقديم الشخصية اللبنانية في الأفلام المصرية وتقبل الجمهور المصري تلك اللهجة المحببة لديهم، على الرغم من أن «بشارة» مصري الجنسية بل ومن أقاصي الصعيد، ولكن الناس كانت تتعلق بلهجته اللبنانية، وكثير من الأفلام، خاصة في الستينات والسبعينات، كان يجري جزء من أحداثها في بيروت، إلا أن التجارب الأخيرة لعرض الأفلام اللبنانية في مصر لم تحظ بنجاح يذكر!! إلا أننا هذه المرة بصدد فيلم لديه قوة دفع من النجاح مشاركا في مهرجانات كبرى، ودائما المخرجة «نادين لبكي» وجه عربي متألق، وحصد فيلمها الكثير من الجوائز، وسوف تشارك بالفيلم في مسابقة الأوسكار لاختيار أفضل فيلم أجنبي، التي تعلن نتائجها في نهاية شهر فبراير (تشرين الثاني).

ويبقى الحديث عن الفيلم الذي تجري أحداثه على خلفية تاريخية لأحداث الفتنة الطائفية التي عاشها لبنان.. بين الدموع والابتسامات تجري أحداث فيلم نادين لبكي «هلأ لوين» التي تعني «الآن إلى أين».. تبدو «نادين» في «هلأ لوين» وهي تتصدى لأكبر مأزق يعاني منه عدد من البلاد العربية، على الرغم من أن الأحداث تجري في قرية صغيرة في لبنان، حيث إن الخطر الذي يدمر أي وطن من الداخل هو الطائفية، وبالتأكيد عانى لبنان واحدة من أكثر الحروب الطائفية شراسة، وإذا كانت حدة الحرب قد هدأت، فإن الجراح لم تندمل، والطائفية أيضا مع الأسف كامنة تحت الرماد، لا يزال في لبنان وعدد من الدول العربية مع الأسف عدد من تلك النعرات.. قررت «نادين» أن تخوض المعركة السينمائية بسلاح السخرية، وأيضا بالدموع، حيث تنتقل في لحظة من مشهد ضاحك إلى مشهد يحيل مشاعرنا إلى فيض من الدموع لا تتوقف!! في هذه البلدة، مثل الكثير من بلادنا العربية، نرى الجامع يقابل الكنيسة، أهالي القرية بينهم حياة مشتركة، بل إن هناك أيضا قصة حب تجمع بين بطلة الفيلم المسيحية التي أدت دورها «نادين لبكى» وجارها المسلم، وفي لمحة تقطر إبداعا تقدم «نادين» مشاعر الحب المتبادل بينهما، وكأنه وهم مستحيل أن يتجسد على أرض الواقع؛ هي تحلم به يراقصها وهو يشاركها في نفس اللحظة الحلم.. المجتمع لا يرحب بالزواج بين مختلفي الديانات.. تحل على القرية بالصدفة فرقة روسية نسائية راقصة، وذلك عندما يتعطل «الأتوبيس»، الذي يحمل أفراد هذه الفرقة إلى إحدى المدن.. القرية كلها تتعاون من أجل استضافتهم، وهو ملمح درامي قدمته «نادين» للتأكيد على كرم أهالي هذه القرية مع الغرباء، فكيف يصبحون بهذه القسوة مع جيرانهم لمجرد الاختلاف في الديانة، ويتناسون كل ما هو مشترك بينهم من صداقة ومشاعر.

الطائفية تعني حالة من الانفلات تبدأ كشرارة صغيرة، حتى ولو كانت مجرد سوء فهم أو حتى شائعة، مثلما حدث في بداية الفيلم عندما دخلت إلى الجامع مجموعة من الحيوانات الأليفة، لأن باب الجامع مفتوح، واعتقد المسلمون في القرية أن هذا الأمر مدبر من قبل المسيحيين، فاعتدوا على الكنيسة ورشقوا تمثال العذراء بالحجارة، ويحاول رجلا الدين الإسلامي والمسيحي التهدئة ولا تمضي سوى أيام حتى تشتعل مرة أخرى بذور التناحر بحكاية مختلفة ومختلقة، وتتأجج نيران حدة الطائفية.

كعادة «نادين لبكى»، تمنح المرأة دور البطولة.. فلم يفلح رجال الدين في التهدئة، ولم ينجح أيضا رجال القرية في إغلاق هذا الملف الطائفي المقيت، ولكن نجحت النساء فيما فشل فيه الرجال.. قررت النساء أن تنزع من كل رجال القرية الأسلحة، كانت أم مسيحية في مشهد سابق قد أطلقت الرصاص على قدم ابنها لتمنعه من إطلاق الرصاص على المسلمين، بعد أن مات ابنها الأول، فخافت على الثاني من أن يلقى نفس المصير.. تتوصل النساء إلى حل خيالي لتلك الطائفية.. وهو أن كل امرأة تتحول للدين الآخر، المسلمة ترتدي الصليب والمسيحية ترتدي الحجاب، وداخل المنزل كل منهما تمارس طقوس الديانة الجديدة أمام زوجها وأبنائها.

ما تسعى المخرجة بالطبع إلى توصيله للجمهور، ليس هو أن يغير الإنسان دينه الذي ولد مؤمنا به، ولكن إلى تقبل مبدأ أن الأديان واحدة عند الله، وأن الفارق في الطقوس وممارسة الشعائر الدينية لا يعني التناحر والاقتتال.. الكل يتوحد، لا تعرف من المسلم ومن المسيحي، حتى المقابر تبدو فيها ملامح هذا الاختلاط، وتنتهي الأحداث بأغنية مليئة بالبهجة وحب الحياة.. نعم الحل عبثي، وهو ما لجأت إليه «نادين» التي شاركت كعادتها في كتابة الفيلم، مثلما كتبت فيلمها الروائي الأول «كرامل»، الذي يحمل أيضا عنوان «سكر بنات»، ولكن القضية الطائفية أيضا عبثية، ولهذا نشاهد رجلي الدين المسلم والمسيحي في نهاية الأحداث وهما يركبان عربة الفرقة التي تحمل الراقصات في طريقهما للاستمتاع بالعروض التي تقدمها الفرقة!! استعانت «نادين» بعدد من أهل القرية اللبنانية، وهم يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، فكانت الطبيعة والتلقائية هي المسيطرة على أسلوب أداء الممثلين الهواة، وحتى تضبط المخرجة الإيقاع كان أيضا الممثلون المحترفون على نفس الدرجة من العفوية.. تميزت موسيقى وألحان «خالد موزنار»، فكانت قادرة على أن تمنحنا في لحظات الحزن مساحة من الشجن، وفي لحظات المرح فيض من البهجة.

ما أشد حاجتنا كعرب إلى أن نرى هذا الفيلم الذي يتصدى للطائفية من خلال حيلة نسائية.. استطاعت «نادين» أن تحقق بفيلمها نجاحا جماهيريا عند عرضه تجاريا في بيروت، وتكرر الأمر عند عرضه في باريس، وفي الكثير من الدول العربية، وأترقب أن يعرض جماهيريا أيضا في مصر.

«نادين لبكي» هي أكثر فنانة لبنانية في السنوات الأخيرة عرضت أفلامها في مصر عرضا تجاريا، قبل 6 سنوات عرض فيلم «بوسطة»، وتعني باللهجة اللبنانية «الحافلة»، الذي شاركت في بطولته، وبعد ذلك عرضت أول أفلامها الروائية كمخرجة وهو «كرامل»، وفي العام الماضي، عرض الفيلم الإيطالي «الأب والغريب»، الذي شاركت نادين في بطولته أمام «عمرو واكد»، و«هلأ لوين» هو اللقاء الرابع مع الجمهور المصري.

وعلى الرغم من الهبوط الشديد في الإيرادات، الذي عانت منه دور العرض في مصر، بعد أحداث 19 نوفمبر في ميدان التحرير، فإن موزعي السينما يؤكدون أن الأيام المقبلة سوف تشهد عودة مرة أخرى للجمهور، ومن الممكن أن يحظى الفيلم بقدر من النجاح ويألف الجمهور اللهجة اللبنانية، خاصة أن القضية الدرامية التي يتناولها الفيلم هي الطائفية البغيضة، وهي مع الأسف تعيشها مصر في بعض جوانبها، ولكن يظل الأمر الأكثر حساسية هو تعامل الرقابة المصرية مع الفيلم، الذي أتمنى أن تتحلى بمرونة في السماح به حتى لا يقال إن ثورة 25 يناير ارتبطت بانغلاق رقابي خاصة، فالفيلم عرضته قرابة عشر دول عربية ولم يستخدم مقص الرقيب، ولهذا فإنه من غير المنطقي أن تعامله الرقابة المصرية بأي قدر من الحساسية، ولا ننسى أن المطالبة بالحرية كانت واحدة من أهم الشعارات التي طالبت بها ثورات الربيع العربي، وحرية التعبير الفني هي ولا شك واحدة من تلك الحريات!!