المجلس العسكري وميدان التحرير وجها لوجه في مهرجان «دبي»

مهرجانات الخليج تواصل دعمها للثورات العربية

من أفلام الثورات العربية التي تعرض في مهرجان دبي
TT

يعرض غدا في مهرجان «دبي» الفيلم الوثائقي «مولود في 25 يناير» للمخرج أحمد رشوان.. لتتواصل سلسلة الأفلام التي تدعم الشعوب العربية في نضالها من أجل الحرية، والتي تواكبت مع موعد انعقاد هذه المهرجانات، حيث كان الشريط السينمائي حاضرا بقوة في الشارع في عز تأجج ثورات الربيع.

وتلعب المهرجانات دورها في التأييد والمؤازرة، والحقيقة أن المهرجانات العالمية الكبرى التي سبقت مواعيدها مهرجانات الخليج، كانت الأسبق في الدعم حيث إنها بدأت الانطلاق من «مهرجان كان» في شهر مايو (أيار) الماضي، ثم «مهرجان فينسيا» في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، ليبدأ الخليج في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مع انطلاق فعاليات مهرجان «أبوظبي» وتتابعت المهرجانات الخليجية في «الدوحة» ثم «دبي».

في مصر عقد في مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مهرجان الإسكندرية ووضع على قائمة جدوله ثورات الربيع؛ ولكن جاء الحصاد هزيلا حيث فضل صناع الأفلام التي ارتبطت بالثورة الذهاب بها إلى مهرجانات الخليج الثلاثة، ثم جاء قرار إلغاء مهرجان القاهرة في هذه الدورة لأسباب أمنية، وإن كان المعلن رسميا من قبل وزارة الثقافة المصرية أن المعوقات الاقتصادية هي التي حالت دون إقامته، إلا أن الخوف من الانفلات الأمني، حيث واكب موعد المهرجان الانتخابات البرلمانية التي كانت هي الدافع الحقيقي وراء الإلغاء.. وبديهي أن مهرجان القاهرة كان سيصبح عنوانه الرئيسي هو تلك الثورات.

على الجانب الآخر، كان من المنتظر أن يعقد مهرجان «دمشق» في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بهدف دعم نظام بشار الأسد، إلا أن ما حدث هو أن المقاطعة المصرية التي أعلنتها النقابات الفنية في مصر، أمام النظام السوري، حالت دون عقد المهرجان الذي كان سوف يؤدي إلى زيادة التناحر ما بين فنانين سوريين يبايعون الأسد ويخاصمون إرادة الثوار، وآخرون يبايعون إرادة الشعب ضد بقاء الأسد الصغير.

ويبقى من بين المهرجانات العربية الكبرى «مهرجان قرطاج»، فهو يعقد مرة كل عامين، وكانت دورته الماضية في أكتوبر عام 2010، وينتظر أن يعقد في العام المقبل ليقدم تونس بعد الثورة.. أعتقد أن الإعداد لتلك الدورة الاستثنائية بدءا من الآن.

جاءت الثورات العربية لتشكل حالة سينمائية في كل المهرجانات مع اختلاف الدرجة، ولكن تستطيع أن ترى بوضوح أن مهرجانات الخليج لم تقف على الحياد، وهكذا شاهدنا في «أبوظبي» فيلم «الطيب والشرس والسياسي»، وبعد ذلك شاهدنا ندوات تؤازر الثورات العربية يدعى لها فنانون معارضون خاصة في سوريا، حيث يصبح الفنان السوري المعارض خارج حدود وطنه هو الذي تسلط عليه الأضواء، مثل الكاتبة هالة العبد الله، والمخرج نبيل المالح، وأسامة محمد، وأيضا كان لمهرجان «الدوحة» موقفه المباشر المؤيد للثورات العربية، وخاصة في سوريا، وتابعنا محمد ملص يرأس لجنة التحكيم واستعان به مهرجان «دبي» أيضا في هذه الدورة، ليرأس لجنة تحكيم الأفلام الإماراتية وعرضت في المهرجانات الخليجية الثلاثة أفلام تنتقد مباشرة النظام السوري، مثل «طوفان في بلاد البعث» وغيرها.

الفيلم المصري «مولود في 25 يناير» أتيح لي رؤيته قبل عرضه غدا بمهرجان «دبي»، وتستطيع أن ترى من خلاله جزأين؛ الأول عن إرهاصات الثورة تلك المقدمات التي كنا نعايشها من خلال الفساد الذي كان ضاربا في الجذور، وشاهدناه في الكثير من المظاهر.. وحرص المخرج أحمد رشوان على أن يقدم الجانب الاجتماعي في تلك الرؤية من خلال عائلته الصغيرة، وكيف عاش مع ابنيه تلك اللحظات.. إنه لا يدعي مثلا أنه شارك الثوار في يومهم الأول، بل كان مثل الآخرين متشككا في حدوث الثورة بمصر، بعد أن تم تصدير تلك المقولة الكاذبة: «إن المصريين يتعايشون مع الفساد ولا يثورون منتظرين الحل الذي يأتي من السماء». حرص أحمد رشوان على أن يقدم دور الفنانين، وذهب بالكاميرا إلى نادي نقابة الممثلين بعد يومين فقط من شرارة الثورة في ميدان التحرير مساء يوم 27 يناير (كانون الثاني)، ولعبت النقابة من خلال شبابها دورا في تعضيد الثورة.. وكان خالد الصاوي أحد أعلى الأصوات التي أصرت على إصدار بيان باسم الفنانين الشباب داعما للثورة، وفاضحا لفساد حسني مبارك، ورافضا لتوريث الحكم إلى ابنه جمال، على الرغم من أن القيادات في النقابات كانت لا تزال خاضعة لتوجه النظام وفي معاداة الثورة، إلا أن هؤلاء الفنانين، خاصة الشباب، لعبوا دورا مؤثرا وفاعلا، بل بعضهم، مثل خالد الصاوي، كان لديه موقفه قبل الثورة بخمس سنوات، وشارك في مظاهرات محدودة شهدتها مصر في السنوات الأخيرة.

كانت عين المخرج أحمد رشوان تبحث عن كل التفاصيل في الميدان من خلال الفرق الفنية الصغيرة التي دفعتها الثورة للحياة، وكانت عينه ترصد رجل الشارع في تلك المعادلة، بالإضافة إلى أن رشوان لم ينس أبدا أن يقدم إحساسه هو بالثورة ومشاركته مع أهل الحي الذي يقطن فيه في الدفاع المدني، الذي كان يشكل ملمحا خاصا في الثورة المصرية، ويبقى الجانب الآخر أنه الجزء الخاص بامتداد أيام الثورة والتي كانت ترفع في البداية شعار «الشعب والجيش.. إيد واحدة».

وكان للمجلس العسكري الحاكم مكانة خاصة بعد أن أصدر البيان الأول مؤازرا للثورة قبل تنحي مبارك عن الحكم، ولعب هذا البيان دوره في تأكيد الإحساس بأن المجلس العسكري يبارك الثورة، ويرى أن مصر كان ينبغي أن تطيح بحسنى مبارك، وأغلب الأفلام التي اتكأت على الثورة وعرضت في الأشهر الأخيرة، ظلت حريصة على إظهار حالة الوئام بين المجلس العسكري والثورة، إلا أن فيلم «مولود في 25 يناير» يواصل رصده لمرحلة زمنية أبعد تستمر حتى 27 مايو (أيار)، عندما بدأ الشارع يرصد أن مبارك لم يحاكم وأن ما يجري هو فقط محاكمة للدائرة القريبة منه.. تتوقف عين المخرج كثيرا عند غضب الشارع الذي أجبر المجلس العسكري بعد ذلك على تقديم مبارك للتحقيق.. كان الشارع دائما يسبق المجلس العسكري في ممارسة الضغط على الأجهزة، التي كانت تبدو أحيانا وهي تريد أن لا تقترب من مبارك وعائلته، على الرغم من أن الكل يعلم بأن السمكة تفسد أولا من رأسها.

المخرج يقدم حالة أخرى بجوار الثورة، إنها حالة عشق للتوثيق بالكاميرا. إنها قوة السينما الحقيقية في الاحتفاظ بالحقيقة المصورة بما تحمله أيضا من نبض وحركة.. المخرج في طفولته قبل 40 عاما لم يلحق بهذا الزمن الذي يتم فيه التصوير بكاميرا الديجيتال، لكنه فعلها مع أبنائه، شاهدناهم أمامنا منذ لحظة الميلاد، كان هذا هو الجانب الذي تستطيع أن تراه وهو يحمل خصوصية أقرب إلى الذاتية، إلا أن المخرج أحاله إلى معنى أبعد بكثير من مجرد التوثيق العائلي حتى نرى فيه عشقا للسينما ولأهمية هذا التوثيق في حياتنا.

كان بالفيلم كاميرا ترصد باحتراف، وهي لمدير التصوير زكي عارف، بالإضافة إلى كاميرا أخرى بها روح الهواة للمخرج أحمد رشوان، وكان المزج بينهما قد منح الفيلم قدرا من التلقائية وتفوقت موسيقى إبراهيم شامل ومونتاج نادية حسن التي كان عليها هي والمخرج أن يمنحا الفيلم زخما إبداعيا خاصا ليصبح للتتابع التوثيقي روحه الجمالية. الدعوة التي يرصدها المخرج ويقولها من دون مواربة هي دولة مدنية لا عسكرية ولا دينية.. ليس بالفيلم حالة من التعمد لتوصيل تلك الفكرة من خلال لقاءات متفق عليها، إلا أنك تستشعرها من خلال الأحداث التي يقدمها المخرج فهو لا يصرح بقدر ما يترك المتلقي يردد هذه القناعة ويرصدها ويعلنها من خلال تتابع لقطات الفيلم.. وفي ملمح هام يقدم المخرج في النهاية صورا لمواليد 25 يناير (كانون الثاني) ليصل إلى 27 مايو (أيار) وهو الذي يتواكب مع آخر لقطات رصدها الفيلم ليصبح وكأن صورة هذا الطفل في يوم ميلاده شاهد إثبات على تطور الثورة.

نعيش الثورة المصرية حتى الآن من خلال الأفلام التسجيلية، لأن الأفلام الروائية التي قدمت الثورة كانت فقط «تتشعبط» على أكتافها تحاول أن تقتنص لمحة الحقيقة. كانت تسرق هذه اللمحات، ولهذا لم يستقبلها الجمهور المصري بما انتظره صناعها من حفاوة لأنه لم يصدقها.. قبل يومين فقط بدأ عرض الفيلم التسجيلي «الطيب والشرس والسياسي» في دور العرض المصرية، وذلك كتجربة استثنائية ونادرة في السينما المصرية التي لم تتعود أن تعرض على الجمهور هذه النوعيات، ربما فقط جاء فيلم المخرج الأميركي مايكل مور «911 فهرنهايت» حالة خاصة، ولكنه على الرغم من الدعاية الضخمة التي صاحبته منذ عرضه قبل خمس سنوات في مهرجان «كان» وسخريته من جورج بوش الابن، لم يقبل الجمهور عليه.. الجمهور المصري لأنه ليس لديه هذا التراكم المعرفي المسبق بالفيلم التسجيلي، إلا أن المفاجأة هي أن فيلم «الطيب والشرس والسياسي» لاقى في بدايات عرضه إقبالا جماهيريا، وهو ما يجعلنا نترقب «مولود في 25 يناير» ليلتقي هو أيضا مع الجمهور في دور العرض وليس فقط المهرجانات ليولد في ثورة 25 يناير حالة أخرى من التذوق السينمائي ليرى الجمهور المصري، ومن ثم العربي أفلاما تسجيلية في سابقة كنا جميعا نعتبرها مستحيلة، ولكن ثورات الربيع العربي أحالت المستحيل إلى ممكن!