«واحد صحيح».. فكرة تبحث عن فيلم صحيح

الحب بين مسيحية ومسلم.. تيمة تتكرر في مهرجان «دبي»

TT

خرج الفيلم المصري «واحد صحيح» خالي الوفاض بلا جوائز في مسابقة «المُهر العربي للأفلام الطويلة»، ولم يكن ذلك يحمل في الحقيقة مفاجأة لأن الأفلام العربية الفائزة كانت هي الأفضل.. الفيلم حمل بذرة لتقديم عمل فني له وميضه الخاص، ولكن لم تكتمل الرؤية الإبداعية حيث إنه توقف في منتصف الطريق!! الكل يلهث في بحثه الدائم عن الآخر ليكتمل به، هناك نظرة مثالية تؤرقنا في البحث عن شريك حياتنا، نريد الكمال إلا أننا نكتشف مع مرور الزمن أن لا أحد صحيح، وأننا مثل الآخرين لدينا ضعفنا.. هذه هي فكرة الفيلم المصري الذي عرض هذه الدورة في مهرجان دبي، وتخللته علاقة حب بين فتاة مسيحية وشاب مسلم لم تنتهِ بالزواج، حيث اختارت البطلة أن تترهبن على أن تتزوج.. ذهبت إلى أحضان الكنيسة لتعيش داخل أسوارها بعيدا عن أي نوازع بشرية تدفعها لارتكاب خطيئة، لأن الزواج بغير الأرثوذكسي في الديانة المسيحية خطيئة.

في العام الماضي عرض مهرجان دبي فيلم «الخروج»، أول إخراج لهشام العيسوي، وحتى الآن لم يعرض الفيلم تجاريا في مصر، وأظنه سيظل ممنوعا من العرض، على الأقل هذه الأيام، فلا أحد يستطيع أن يجازف ويوافق على السماح بفيلم يشهد علاقة حب بين مسيحية ومسلم أو العكس، في ظل حالة الشحن الطائفي التي نعيشها في مصر، وندرك تماما أن هذه الحالة كانت قد وصلت إلى أقصى درجاتها قبل ثورة 25 يناير، ولا تزال تعيش مصر في لهيب المأزق الطائفي.

إلا أن فيلم «واحد صحيح»، أول إخراج لهادي الباجوري، لا أظنه هذه المرة سيتعرض لهذا المأزق؛ حيث إنه مصنوع بدقة لكي يقفز فوق المحاذير التي تضعها الرقابة المصرية، لأنها هذه المرة لن تجد حرجا في التصريح بعرضه جماهيريا لأنه في النهاية ينحاز إلى تعاليم الديانة المسيحية عندما تقرر البطلة «كندة علوش» أن لا تفرط في ديانتها وتهجر حبيبها، وبالتأكيد فإن تقديم أبيها الذي أشهر إسلامه وتزوج بأخرى غير أمها من الممكن في هذه الحالة التسامح معه دراميا لأنه سيظل من الماضي، كما أن الابنة لم تكرر غلطة الأب، بينما فيلم «الخروج» الممنوع من العرض الجماهيري لم تلتزم فيه البطلة بالحدود التي تفرضها ديانتها المسيحية وقررت الزواج بمسلم!! لا يمكن بالطبع التعامل مع الفيلم السينمائي فكريا من خلال ما تفرضه أو ما تسمح به الرقابة، إلا أننا نتعامل مع ظرف استثنائي تعيشه، ليس فقط السينما المصرية، ولكن الحياة كلها في مصر، وهذا بطبعه انعكس في التعاطي مع الفنون والإبداع.

الكاتب تامر حبيب أراه واحدا من الموهوبين في هذا الجيل، وهو الأقل نشاطا، ولكنه ولا شك لديه شيء حقيقي وصادق يعبر عنه، وذلك منذ أول أفلامه «سهر الليالي» قبل 8 سنوات، وتابع ذلك في عدد آخر من أفلامه.. كان تامر يكتب عن أصدقائه الذين عرفهم وتعلق بهم، لم يروِ بالطبع كل التفاصيل ولم يكن يقدم فيلما بقدر ما نرى مشاعر تختلط فيها الحقيقة بالخيال، وهو أيضا ما كرره في فيلمه «واحد صحيح».

في هذا الفيلم (واحد صحيح) لا تستطيع وأنت مرتاح الضمير أن تصفه بالفيلم الصحيح، الكل بداخله أخطأ أو لعله يشعر بضعف ما.. هاني سلامة هو الشخصية المحورية في هذا الفيلم، إنه الرجل الوسيم الذي تتكاثر حوله الجميلات، دائما ما يشعر بميل إلى واحدة يعيش معها مرحلة زمنية، بعد ذلك ينتابه الفتور ولا يكمل الطريق ويبحث عن أخرى، وعادةً الأخرى هناك من يشغلها أو يشاغلها أو يتعلق بها ولا تستطيع الفكاك، الكل مقيد بطريقة ما تجاه الآخر، والكل لديه أيضا ما يجعله يبحث عن الحرية بعيدا عن القيد، ويرنو إلى آخر يريد أن يعانقه ولا يعثر عليه.

الفيلم يبدأ بسرد الحكاية، كل شخصية تروي عن نفسها.. بطل الفيلم هاني سلامة يبدأ الأحداث وهو يتناول صداقته مع بسمة، التي تشكل نقطة ضعفه، فهي الأقرب إليه وكأنها الأخت التي لم تلدها أمه، وهي أيضا تروي ذلك وتحكي ضعفها تجاهه، فهو الأخ الذي لم تلده أمها.. يروي لها حتى أدق أسراره وعلاقاته النسائية وغزواته في هذا المجال، وكيف أوقع تلك في حبائله وكيف أفلتت الأخرى، ولكنه أيضا ينجح في عمله كمهندس ديكور، بل تذهب إليه المحطات التلفزيونية لتجري معه لقاءات.. إنها كما تبدو شخصية شاهدناها كثيرا في أعمال درامية سواء أخذت منحى المعالجة التراجيدية أو الكوميدية، ويبقى الفيصل بين عمل وآخر في أسلوب التعبير والأداء.

الاستعانة بالحكي الذي لجأ إليه كاتب السيناريو أراه في جانب منه يدفع المتفرج إلى قدر من التأمل في ما وراء الحدوتة، كما أنها تحقق قدرا من الحميمية بين المتفرج والعمل الفني، فهي تشعره بروح الصداقة مع الأبطال.

مثل هذه الأعمال يعتمد في قسط وافر من نجاحه على قدرة المخرج على التقاط تفاصيل الحالة، كما أن مدى تحقق النجم جماهيريا يلعب دوره في الإحساس بالفيلم، خصوصا وأن عددا من الشخصيات الدرامية تنجح من خلال توفر هذا الشرط المسبق بين الفنان النجم والجماهير.. مثلا لو نزعت اسم عادل إمام أو أحمد حلمي من أفلامهما واستعنت بنجم آخر ربما أكثر موهبة ولكنه لا يحظى بتلك الهالة الجماهيرية فإن الفيلم لن يحظى بأي قدر من النجاح المرتقب.

وبالتأكيد فإن هاني سلامة، الذي شاهدناه بطلا في أول أفلامه «المصير» ليوسف شاهين قبل نحو 14 عاما لم يحقق دائرة جماهيرية عريضة، هو بالتأكيد تتوفر فيه صفات وملامح البطولة في السينما المصرية، ولا يمكن أن نتصور أن كل تلك البطولات التي قدمها للسينما جاءت إليه وهو مفتقد للكاريزما الجماهيرية، ولكن الأمر هنا مختلف لأن الدور هو النجم. تواصل الفيلم مع الجمهور مرهون بجاذبية النجم.. الفيلم يقدم لنا ملامح بين كل من بسمة وهاني سلامة من ناحية، ومن ناحية أخرى بين هاني وعمرو يوسف، حيث يعملان معا في شركة للديكورات والتصميمات، وفي نفس الوقت فإن عمرو وبسمة المتزوجين قد انفصلا، ولم تنجح محاولات هاني سلامة باعتباره صديقا للطرفين في أن يعيدهما إلى حالة الوئام، ونكتشف في نهاية الأحداث أن العقدة الحقيقية تكمن في بسمة التي تحب هي أيضا هاني سلامة.

الجانب الحساس في تلك القضية هو المشاعر التي تنتاب كندة علوش في صراعها بين دينها وحبها وتختار في نهاية الأمر الدين وتضحي بالحب.. وأتصور الاختيار هنا رقابيا أكثر منه دراميا، لأن الكنيسة الأرثوذكسية لا تعترف بهذا الزواج الذي يتعارض مع مبادئها، وسبق وأن عبرت الكنيسة عن غضبها من مسلسل سابق وهو «أوان الورد»، رغم احتفاظ البطلة سميحة أيوب بدينها بعد أن تزوجت بمسلم.

الشخصية الأخرى كانت رانيا يوسف، المرأة الشبقة جنسيا، التي تتزوج برجل «مثليّ» شاذ جنسيا لأنه يكمل بزواجه بها الشكل العام الذي يريد الاحتفاظ به كوضع أدبي كونه رجل أعمال ثريا، أدى دوره زكي فطين عبد الوهاب.. في نفس الوقت تتعدد علاقاتها وتقع في حب هاني سلامة، بينما هو يحب كندة، في نفس اللحظة فإن أم هاني تختار له أن يتزوج بمذيعة التلفزيون الوجه الجديد ياسمين الرئيس، وهي تحب هاني وتتعلق به ولكنه لا يشعر بحبها، بينما يهيم بها حبا من طرف واحد مخرج برنامجها، إلا أن هاني سلامة يهرب منها في يوم زفافه عليها، فهو لا يزال يبحث عن «المرأة الصحيحة»، التي لم يعثر عليها سوى في كندة علوش، حبه المستحيل!! المخرج هادي الباجوري هو ابن شرعي للفيديو كليب لأنه تخصص في إخراج أغاني الفيديو كليب والإعلانات، قدم فيلمه كرؤية إخراجية وهو يحمل هذا الإحساس في إيقاع الصورة الذي يحمل قدرا من «الطزاجة»، عابه الاستخدام الصارخ للموسيقى.. كانت كاميرا أحمد المرسي تقدم إحساسا بالصورة.. الكاتب تامر حبيب أحيانا يلجأ إلى المونولوج الطويل الذي يقدم مثلا التناقض بين الرجل والمرأة في الرؤية، الرجل الذي يعتقد أنه يقود الحياة، وشبه ذلك بالعربة، فهو الذي يمسك بمقود السيارة - الدريكسيون - بينما في الحقيقة هي التي تقوده، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو أن تسمح له ببعض ضربات باستخدام آلة التنبيه لنستمع إلى صوت «بيب بيب» وكأنه طفل يلعب.. المونولوج الدرامي طال أكثر مما ينبغي، وهو خطأ الكاتب!! حكاية أبو كندة الذي أشهر إسلامه أخذت مساحة مبالغا فيها من المشاهد، وعلاقته بابنته المسيحية ظلت بين الحين والآخر تؤرق الكاتب وتدفعه للتفسير والتبرير.. الفيلم حالة خاصة مغايرة لما تعودنا أن نراه في أفلام المنتج محمد السبكي، الذي شاهدنا له مؤخرا مثلا فيلم «شارع الهرم»، وفي الكثير من أفلامه كثيرا ما يقدم في نهايتها دروسا أخلاقية حتى تلك المليئة بالرقص والأغاني الخليعة، فهو يحاكم أبطاله دراميا بناء على ذلك، وقد يدينهم أو يبرئهم.

هذه المرة مثلا، هاني سلامة ارتكب الكثير من المعاصي، وكذلك رانيا يوسف وزوجها زكي فطين عبد الوهاب، ولم يوجه إليهم المخرج إدانة درامية.. كان بالفيلم حوار نستطيع أن نطلق عليه الحوار «الروِش» المرتبط في مصر بمفردات كثيرة صار يستخدمها الشباب بكثرة في تعاملهم اليومي، وهناك ضرورة بالطبع لكي يتم التعامل بها ما دام الفيلم يتناول مرحلة عمرية صارت هذه هي مفرداتها، إلا أنه كان هناك قدر من الإسراف في استخدام عدد منها، خصوصا في حوار بسمة.

في أداء الممثلين كانت رانيا يوسف هي الأكثر حضورا، تقدمت كثيرا في العامين الأخيرين.. كندة بحاجة إلى تغيير الأدوار، وبالطبع فإن المخرجين يتحملون تلك المسؤولية.. أعجبتني الوجه الجديد ياسمين الرئيس، فهي حالة مختلفة.. لم تلون بسمة في أسلوب الأداء.. وأعجبتني التلقائية والعصرية في أسلوب أداء عمرو يوسف.. «واحد صحيح» فكرة صحيحة لم تعثر بعدُ على فيلم صحيح!!