نظرة على مهرجان السينما التركية في لندن

امتد لأسبوعين وعرض 15 فيلما روائيا طويلا

لقطة من فيلم «حدث ذات مرة في الأناضول»
TT

عادة ما ينصب الجدل فيما يتعلق بالسينما التركية حول مسألة «الهوية». وتحديدا، يتمحور ذلك في سؤال: «ما هو التركي»؟ هل هو إسلامي أم علماني أم أوروبي أم شرق أوسطي أم تاريخي أم حديث وهكذا. خلال مهرجان السينما التركية في لندن، والذي انتهت فعالياته الأسبوع الماضي، ظهر هذا السؤال على السطح، سواء حرفيا أو على نحو مفاهيمي في كل من تحليلات الأفلام ومحتواها. أسس نظام برنامج المهرجان مفهوما أكبر لـ«تركيا»، بعرض قصص عن السلوكيات والأنماط المزاجية التركية. لكن كان العنصر الأبرز هو الأماكن والمناظر الطبيعية التركية وتجسيد الطابع الريفي والطبيعي والعالمي في سياق التاريخ الإقليمي الكبير والسياسات الحالية للدولة، إضافة إلى مكانتها السابقة كإمبراطورية، وهي حقبة ما زالت تشكل مصدر إزعاج وتضيف إلى أعاجيب الدولة الضخمة التي تضم أجناسا متنوعة والتي تدخل الجماهير في سياق تعقيد ما هو «تركي».

ركز المهرجان الذي امتد لأسبوعين على الكيف بدرجة أكبر من الكم. فمن خلال 15 فيلما روائيا طويلا، أوضحت جودة صناعة السينما للجماهير في لندن سبب اكتساب تركيا موقعها بين أبرز صناع السينما العالميين. في المقام الأول، توافقت الأفلام مع أعضاء لجنة التحكيم، الذين تألفوا من مخرجين ومنتجين وأكاديميين، بابتكار أحداث تعليمية تعطي بعدا أقوى وتثير الجدل حول السينما والثقافة التركية. من الملاحم الضخمة إلى الدراما النفسية والمقتطفات الأدبية المختارة المضفى عليها أبعاد عالمية، والتي تجمع عددا من المخرجين، إلى جانب خصائص الأفلام المختلفة التي تتنوع من الفيلم الرقمي إلى أفلام الـ16 مم التي أوشكت على الاندثار: كان مهرجان السينما التركية في لندن متعة بالنسبة لكثير من محبي السينما، وهو ما تجلى من خلال تركيز المدح على تنوع القصص والأجناس السينمائية المقدمة.

بعد عرضه لأول مرة في مهرجان السينما في لندن في أكتوبر (تشرين الأول)، كان الفيلم الملحمي «حدث ذات مرة في الأناضول» للمخرج التركي نوري بيلغ سيلان أبرز الأفلام المتوقع عرضها في هذا المهرجان. يتناول هذا الفيلم الذي تقترب مدة عرضه من ثلاث ساعات عملية البحث البطيئة عن جثة؛ ففيما اعترف شخصان بارتكابهما جريمة قتل، إلا أنهما قد نسيا أين قاما بدفن الجثة. وأنتج سيلان، المعروف بالصور المعبرة والتعمق في الريف التركي، فيلما آخر يهيئ الفرصة للتحاور بين المناظر الطبيعية الممتدة على مساحات شاسعة والجمهور. مثلما أوضح الدكتور يورغوس ديريس، المحاضر في الدراسات التركية بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية: «سيلان لا يوجه كاميرته إلى الريف فحسب، وإنما يمكن الريف أيضا من النظر إلينا، والتعرف على ما نفعله». في حقيقة الأمر، يقرب التصوير الجمهور من المنظر الطبيعي، محيلا المشاهدين إلى غرباء وليس العكس. ويشير ديريس إلى أن هذا الفيلم قد عزز مساهمة المخرج في «التاريخ المتعلق بكيفية النظر إلى الأناضول، من خلال دراسة ثقافية مستمرة ومتعمقة». يعتمد الفيلم، المرتكز على مرجعيات سياسية وثقافية محلية، على خبرة المؤلف المشارك في كتابة السيناريو، التي اكتسبها من إجرائه تحقيقات حول جرائم القتل التي وقعت مؤخرا عبر أنحاء تركيا ولم يبت فيها والتي ارتكبها تنظيم القاعدة.

ويتناول فيلم آخر مدافع عن البيئة وهو «الوطن» منظورا آخر عن الريف. يقوم هذا الفيلم المعتمد على المناظر الطبيعية على فكرة الحنين للوطن بوصفه مهد الطفولة والسياسات التنافسية. ومخرج الفيلم، موزافير أوزدامير، الذي يعلن صراحة عن مناهضته للحداثة، معني بظهور الطاقة الكهرومائية والتنقيب عن الذهب وقرارات الحكومة بشأن الاستيلاء على الأراضي وبيعها. يقول: «الحكومة ليست على حق دائما»، هكذا يتحدث، مضيفا عبارة حول الرأسمالية نصها «إذا كان مسؤولوها عاجزين عن بيع ظل شجرة قاموا بقطعها». بطل الفيلم يتأمل الطبيعة التي هو في بحث دائم عنها وينام بين أحضانها ويتناولها بالدراسة ويتحاور معها، لكنه لا يستطيع العثور عليها. إنه فيلم إيقاعه بطيء، ولكنه غاية في العمق؛ إذ يقدم نظرة متأملة للطبيعة ويتنبأ بتأثيرات التصنيع على الريف في تركيا (وفي شتى بقاع العالم).

ومن الأفلام التي تتناول الريف، ولكن هذه المرة على طريق سريع، الدراما النفسية التي تندرج ضمن فئة الكوميديا السوداء «تول بوث». وهذا الفيلم الذي يتعمق في معضلة نفسية معقدة هو أول فيلم طويل لتولغا كاراسيليك. وانطلاقا من عمله بوظيفة محصل رسوم على البوابات بطرق السفر، يتناول كاراسيليك نمط الحياة التقييدي - على المستويين النفسي والعقلي - الذي يعيشه من يعملون بهذه الوظيفة التي باتت عتيقة الآن. يلاحظ الجمهور عزلة هذه الفئة التي يجسدها الفيلم، حيث تستمر بلا انقطاع حركة التعامل مع التذاكر والأموال وتبادل النقود مع مرور السيارات بلا نهاية. ويجسد الفيلم إيقاع هذه الوظيفة الرتيبة، من خلال تعمق الشخصية المحورية في خيالاتها الجامحة ومواطن قلقها، على نحو يضيف إلى ذروة أحداث الفيلم المتصاعدة. وفي تعقيد شديد، يتناول الفيلم الصراع النفسي الذي يمر به البطل جراء وفاة أمه وتحكم والده وعجزه عن عيش حياة طبيعية نتيجة لكل هذه الظروف.

لكن ربما يكون أكثر الأفلام تأثيرا هو فيلم يركز على المكان وهو «لا تنسيني يا إسطنبول». ويتألف الفيلم من ستة أفلام قصيرة لستة مخرجين مختلفين، كل منها يقوم على منظور عرق معين تأثر بالإمبراطورية التركية، من بينهم الأرمن والعرب واليونانيون والبلقانيون. وفي ذروة أحداث الأفلام الستة، ثمة خيط يصل بينها، والذي يوضح كيف أن تاريخ إسطنبول المثير للنزاعات تاريخ عالمي، كالصورة التي عليها المدينة نفسها الآن. بعد عرض الفيلم، تم إجراء حوار مع يورغوس ديريس، الذي تحدث عن فكرة «الحنين إلى الماضي» في صورة «ذكريات» وأناس منفيين. وعلى الرغم من ذلك، فإن فكرة «العودة إلى الماضي»، كما يشير ديريس، «ليس بالضرورة أن تكون فكرة شائعة». في العموم، يعرض الفيلم تاريخا محي بالأساس. تلقى فيلم «لا تنسيني يا إسطنبول» دعما من جانب مجلس السياحة بالمدينة بوصفه جزءا من عاصمة الثقافة لعام 2010 التي سعت لاستعادة ذكرى تلك الحقب التاريخية، وهي مبادرة، بحسب ديريس، كانت مهمة «لكنها لم تكن بلا منافس».

ولا يزال السؤال المتعلق بـ«ما هو تركي» جزءا لا يتجزأ من الجدل المستمر حول السينما التركية الجديدة. ومثلما يتجلى في هذه الأفلام، يعتبر المنظر الطبيعي والموقع عنصرا لا خلاف عليه. وفي حديث له عقب عرض فيلمه، علق تولغا كيراسيليك بقوله إن فيلمه تم رفضه مرة واحدة فقط من قبل إدارة أحد المهرجانات، وكان السبب الذي قدم له هو أن الفيلم «لم يكن تركيا بالدرجة الكافية». يكمن ثقل هذا التعليق بدرجة كبيرة في فكرة الحاجة الموضوعية لتحديد هوية هذه الدولة الضخمة الواسعة العتيقة، والتي تمثل جانبا محيرا بالنسبة للبعض. على النقيض، فإن ما تمت مشاهدته من خلال مهرجان لندن للسينما التركية لم يكن مجرد سينما عالية الجودة، وإنما أيضا التطور الإيجابي للوعي والحس النقدي والوعي الذاتي، الذي يتطور مع العقبات التاريخية، التي إذا ما تم التعامل معها على الوجه الصحيح، مثلما يتبين من خلال هذه الأفلام، ستتحول إلى مواطن قوة ثقافية.