رحلة صراع الأفلام العربية في المهرجانات السينمائية

من «أبوظبي» إلى «وهران».. «مولد وصاحبه غايب»

TT

انتهت مساء أمس فعاليات مهرجان «وهران» للفيلم العربي في طبعته الخامسة وكأنه يردد مع الشاعر أبي العلاء المعري: «وإني وإن كنت الأخير زمانه.. لآتٍ بما لم تستطِعه الأوائلُ».. ومهرجان «وهران» بالفعل هو الأخير زمانه، فهو يغلق أبوابه قبل نهاية العام بنحو سبعة أيام، ولم يكن هذا هو حال المهرجان في دورتيه الأولى والثانية اللتين كانتا على العكس تماما، يبدأ بهما ماراثون المهرجانات العربية، حيث اختارت إدارة المهرجان في بدايته عام 2007 شهر يونيو (حزيران) للانطلاق بعيدا عن التزاحم والصخب والضجيج الذي نشاهده عادة مع منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) حتى ينتهي الصراع في وهران، تلك المدينة التاريخية الساحرة المطلة على البحر المتوسط، والتي تمزج بين الموسيقى والغناء والفولكلور والإبداع التشكيلي.

المهرجانات العربية جميعها صارت تمنح السينما العربية قدرا من الحفاوة بعد أن أصبحت هي عنوانها الأبرز، الجوائز الرئيسية عربية، وهكذا صارت هي الساحة الحقيقية التي تتسابق فيها الأفلام من مهرجان إلى آخر، «أبوظبي» و«الدوحة» و«مراكش» و«دبي» وأخيرا «وهران»، ليس أمامها سوى نفس الأفلام العربية، وفي العام القادم سوف تلحق بها المهرجانات العربية الأعرق تاريخيا، والتي توقفت هذه الدورة بسبب ثورات الربيع العربي، وهي «القاهرة» و«قرطاج» و«دمشق»، أي أننا نتحدث عن ثمانية مهرجانات عربية همها السينمائي عربي في تلك المساحة الزمنية الضيقة، وكثيرا ما تجد أن مهرجانين قد توافقا زمنيا على عرض نفس الفيلم في مهرجانين يعقدان في نفس التوقيت، بل في نفس اللحظة عبر نسختين.. أتذكر مثلا فيلم «الجامع» المغربي الذي عرض في مهرجاني «الدوحة» و«قرطاج» في نفس التوقيت من العام الماضي.

المهرجانات التي لها توجه عالمي مثل «القاهرة» فإنه ومنذ خمسة عشر عاما قد أقام مسابقة للفيلم العربي، وهو ما فعله مهرجان دمشق.. أما مهرجان «قرطاج» فإنه ظل محافظا على طابعه العربي الأفريقي منذ دعا لإقامته طاهر الشريعة عام 1966، فهو أقدم مهرجان عربي لأن مهرجان «القاهرة» أقيم بعده بعشر سنوات.

وفي العادة فإن الفيلم الذي تراه في مهرجان عربي يتحفظ بعض الشيء المهرجان الآخر في عرضه، إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض الاستثناءات مثل الفيلم اللبناني «هلأ لوين» لنادين لبكي، والسبب هو أن الفيلم شارك في قسم «نظرة ما» في مهرجان «كان» السينمائي، وهي حالة نادرة لا تحدث كثيرا في السينما العربية، ولهذا تنقل «هلأ لوين» من مهرجان عربي إلى آخر وتم القفز على تلك الحساسية، وهكذا شاهدنا الفيلم في ثلاثة مهرجانات عربية متتالية، «أبوظبي» و«الدوحة» و«وهران».

وتميزت المهرجانات العربية بأنها توجهت هذا العام إلى أفلام الثورة في مصر وتونس وسوريا، وكانت المهرجانات العالمية هي الأسبق في هذا الاتجاه، حيث رأينا مهرجان «كان» في شهر مايو (أيار) عرض فيلمين، التونسي «لا خوف بعد اليوم»، والمصري «18 يوم»، ويقيم احتفالية خاصة للثورتين المصرية والتونسية.. بينما مهرجان «فينسيا» عرض من مصر «تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي»، وعرض أيضا أفلاما سورية تناول مخرجوها الثورة التي لا تزال تزداد اشتعالا بينما «الأسد» يزداد شراسة حتى إن بعض هذه الأفلام حرص مخرجوها على أن لا تكتب أسماؤهم في التترات خوفا من الملاحقة الأمنية! الساحة العربية شهدت أفلاما هامة تستطيع أن تجد مهرجان «وهران» وقد أمسك بها جميعها، فهو لا يحرص على الانفراد بالعرض لأول مرة، ووجوده في نهاية العام يحيله لكي يصبح بمثابة المحطة الأخيرة لكل الأفلام العربية أو هو بمثابة المصفاة النهائية، وهكذا مثلا نستطيع من خلال مهرجان «وهران» أن نرصد حال الإبداع السينمائي العربي هذا العام ونلمح على الفور «هلأ لوين» باعتباره يشكل علامة هامة لأن الأفلام العربية التي تشارك في مهرجانات كبرى يظل عددها محدودا جدا، وهكذا مثلا كانت نادين لبكي المخرجة اللبنانية وجها عربيا متألقا في مهرجان «كان» الأخير بفيلمها «هلأ لوين»، وسوف تشارك بالفيلم في مسابقة الأوسكار لاختيار أفضل فيلم أجنبي.

بين الدموع والابتسامات جرت أحداث فيلم نادين لبكي «هلأ لوين» التي تعني «الآن إلى أين».. تبدو نادين في «هلأ لوين» وهي تتصدى لأكبر مأزق يعاني منه عدد من البلاد العربية رغم أن الأحداث تجري في قرية صغيرة في لبنان، حيث إن الخطر الذي يدمر أي وطن من الداخل هو الطائفية، وبالتأكيد عانى لبنان واحدة من أكثر الحروب الطائفية شراسة، وإذا كانت حدة الحرب قد توقفت، إلا أن الجراح لم تندمل والطائفية أيضا مع الأسف كامنة تحت الرماد. لا يزال في لبنان الكثير من تلك النعرات.. قررت نادين أن تخوض المعركة السينمائية بسلاح السخرية وأيضا بالدموع، حيث تنتقل في لحظة من مشهد ضاحك إلى مشهد يحيل مشاعرنا إلى فيض من الدموع لا يتوقف.

في هذه البلدة مثل الكثير من بلادنا العربية نرى الجامع يقابل الكنيسة، أهالي القرية بينهم حياة مشتركة، بل إن هناك أيضا قصة حب تجمع بين بطلة الفيلم المسيحية التي أدت دورها نادين لبكي وجارها المسلم.. المجتمع لا يرحب بالزواج بين مختلفي الديانات.. كعادة نادين لبكي تمنح المرأة دور البطولة لم يفلح رجال الدين في التهدئة، ولم ينجح أيضا رجال القرية في إغلاق هذا الملف الطائفي المقيت، ولكن نجحت النساء في ما فشل فيه الرجال.. قررت النساء أن تنزع من رجال القرية الأسلحة.. تتوصل النساء إلى حل خيالي لتلك الطائفية، وهو أن كل امرأة تتحول إلى الدين الآخر، المسلمة ترتدي الصليب، والمسيحية ترتدي الحجاب، وداخل المنزل كل منهما تمارس طقوس الديانة الجديدة أمام زوجها وأبنائها.. ما تسعى المخرجة بالطبع إلى توصيله للجمهور ليس هو أن يغير الإنسان دينه الذي وُلد مؤمنا به، ولكن إلى تقبّل مبدأ أن الدين لله والوطن للجميع.. نعم، الحل عبثي، وهو ما لجأت إليه نادين التي شاركت كعادتها في كتابة الفيلم مثلما كتبت أيضا فيلمها الروائي الأول «كرامل»، ولكن القضية الطائفية أيضا عبثية.

ومن الأفلام الهامة أيضا فيلم «نورمال»، حيث تعددت الأفلام، روائية وتسجيلية، والتي تناولت الثورات العربية، ودائما ما تشعرني هذه الأفلام بالافتعال الفني والفكري والدرامي، فهي قد صنعت من أجل استغلال الحدث، ويعتقد صانعوها أنهم والجمهور على موجة واحدة، إلا أنهم يكتشفون عند العرض أن الناس اكتشفت خداعهم والمسافة قد اتسعت، والموجتان لم تلتقيا.

على الجانب الآخر، جاء الفيلم الجزائري «نورمال» (طبيعي) للمخرج مرزاق علواش، أصبح اسم علواش إحدى علامات الجودة في السينما العربية، أفلامه دائما هي عنواننا العربي الأبرز والأهم في الكثير من المهرجانات العالمية.. وفي فيلمه قبل الأخير «حراقة» الذي عرض في مهرجان «فينسيا» قبل نحو عامين كان يتناول معاناة الشباب الجزائري الذين تقطعت بهم سبل الحياة ولم يعد لديهم من حلم سوى الهجرة خارج الحدود.

هذه المرة قدم مرزاق فيلمه «طبيعي» (normal) الذي يتناول أيضا أحلام وإحباطات الشباب الذين قرروا التشبث بالبقاء على أرض الوطن وتغييره للأفضل، حيث يقطع المخرج في بنائه للفيلم الخط الفاصل بين الرؤيتين التسجيلية والروائية من خلال حبكة درامية تقدم أيضا معاناة الشباب الذي يتمسك بأرضه فيقرر هذه المرة أن يصبح مناضلا فيهتف من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.. عين المخرج توجهت إلى تفاصيل عاشها الشباب من خلال مشاهدة جماعية لفريق العمل لفيلم تسجيلي قدمه قبل عامين ويحاول استكماله وإضافة أشياء تتوافق مع الحالة والمزاج النفسي بعد ثورات الربيع العربي، حيث أيقظت مشاعره بأحاسيس متضاربة متابعته للمظاهرات التي اندلعت في الجزائر قبل الثورتين التونسية والمصرية وهي تطالب بالحرية، وكذلك نجاح الثورتين التونسية والمصرية التي قادها الشباب وغيّر من خلالها وجه العالم العربي كله.

ثورات الربيع العربي شاهدتها في الكثير من الأفلام، تسجيلية وروائية، ولكني أراها بزاوية أخرى من خلال هذا الفيلم الذي أثبت به مرزاق علواش أن نبضه السينمائي لا يزال شابا، بل ومشاغبا، حتى لو لم يحمل لافتة في الشارع الجزائري مثل بطل الفيلم يطالب فيها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لأن فيلمه كان محرضا لكي تطالب الجماهير بذلك.

الفيلم يحمل اسم «طبيعي» رغم أن الثورات العربية كانت تحمل ظرفا استثنائيا غير طبيعي ولا معتاد في تاريخ الشعوب العربية، ونحن نرى الصورة الآن بها الكثير من الثقوب والانكسارات على أرض الواقع، ونتمنى أن تصبح بالفعل الحياة في العالم العربي بعد ثورات الربيع طبيعية «نورمال» على رأي مرزاق علواش.

ومن مصر أتوقف هذا العام أمام فيلم «أسماء» للمخرج عمرو سلامة، ولا شك أنه مغامرة إبداعية، وهند صبري قدمت دورا لا يُنسى.. الفيلم عُرض تجاريا مؤخرا في مصر ولم يحقق الإيرادات؛ لأسباب من الممكن أن نرصدها نفسيا وليس فقط إبداعيا. هل ضبطت نفسك غير قادر على النظر إلى صورة منشورة في الجريدة تشير إلى وجه تنضح عليه مثلا البثور؟! حزنت وأشفقت، نعم، ولكنك أيضا على الأقل لا شعوريا كنت تخشى العدوى أن تنتقل إليك رغم أننا نتعامل مع صورة.. أتصور أن تلك هي المعضلة التي واجهت الفيلم الروائي «أسماء» للمخرج عمرو سلامة، لأنه يتناول حياة امرأة في منتصف العقد الخامس من عمرها مصابة بالإيدز، أي أنه من البداية صنع مساحة من التباعد بين الشاشة والجمهور.. وربما لهذا السبب شاهدنا في اللقطة الأخيرة من الفيلم هند صبري وهي تنزع القفاز عن يديها وتسلم على مقدم البرامج التلفزيونية الذي أدى دوره ماجد الكدواني. إنها تفصيلة دقيقة ولكنها تعني أن الطرفين كل منهما عبر إلى الضفة المقابلة للآخر.

إلا أن الفيلم قد وقع في خطيئة درامية عندما أذاع السر لجمهوره وحجبه عن أبطاله، نحن كمتفرجين نعرف أنها ضحت بنفسها وأصيبت بالعدوى من زوجها عندما رفضت أن تتركه يموت فانتقلت إليها العدوى، وأنها بعد أن أخبرها الطبيب بحقيقة المرض أقامت العلاقة معه لكي تمنحه الطفل الذي يتمناه، وهي طبقا لوصيته ترفض أن تبوح بسرّ مرضه... وستمكث كثيرا في الذاكرة هند صبري وهي تتقمص دورها بإبداع وألق في نبرة الصوت والإيماءة والحركة والنظرة.. ولا يزال ماجد الكدواني قادرا على إدهاشي في طريقة التقاطه لتفاصيل الشخصية التي يؤديها.

ومن تونس جاء إلى «وهران» أيضا فيلم «ديما براندو»، أتذكر جيدا قبل عشر سنوات عندما كنت أقابل المخرج التونسي الكبير رضا الباهي في المهرجانات السينمائية. كم كان سعيدا وهو يتحدث عن فيلمه القادم «ديما براندو» و«ديما» بالتونسية تعني «دائما».. البعض كان يتشكك في جدية المشروع، متسائلا وربما ساخرا كيف أن النجم الأسطوري الكبير مارلون براندو يقبل أن يشارك في فيلم ميزانيته محدودة ومخرجه عربي.. كانت فكرة الفيلم تتناول حكاية شاب صار متيما بحب مارلون براندو لأن ملامحه تتشابه معه والناس تطلق عليه «براندو». وأكد لي وقتها المخرج أن براندو اختار السيناريو من بين عشرات الأفكار التي تعرض عليه، وأن الباهي سعى لبراندو، ليس فقط لقيمته الفنية ولكن هذا الفنان كانت له مواقفه السياسية التي لا يستطيع أحد أن يزايد عليه فيها مثل مناصرته الهنود الحمر ودفاعه عن حقوق الفلسطينيين.. كان هذا المشروع هو حلم عمر رضا الباهي، وهو واحد من أفضل المخرجين في تونس، الذي سبق وأن شاهدت له الكثير من أفلامه التي كثيرا ما أثارت إعجابي، حيث تشغله دائما «تيمة» العلاقة بالآخر مثل «شمس الضباع» و«السنونو لا يموت في القدس» و«صندوق عجب»، وفيلمه الأخير ترى فيه أيضا هذا الجانب ولكن القدر كان له رأي آخر، مات براندو قبل سبع سنوات فقرر الباهي أن يتحدى القدر.. ما الذي يتبقى في الذاكرة من «ديما براندو»؟ سننسى كل شيء ونتذكر فقط أن الذي استحوذ على المخرج رضا الباهي هو إصراره على تحدي الأقدار التي خطفت منه في اللحظات الحاسمة نجمه الأثير براندو، فلم تكن قضية الفيلم هي تحليل مشاعر البسطاء مثلا عندما يجدون الأضواء والدولارات فيستسلمون لها.. الشاشة لم تقُل سوى أن هناك إحساسا بالمرارة لدى المخرج بعد أن فقد مشروع عمره الذي كان سيصعد به من خلال اسم مارلون براندو إلى العالمية.. أراد الباهي أن يبني بيتا في الهواء بعد أن فشل في تحقيقه على شريط سينمائي.

كانت هذه هي أهم الأفلام العربية - مهما تباين مستواها وكان لي عليها تحفظات - قد شاهدناها هذا العام وعرضها مهرجان «وهران» في مسابقته العربية التي انتهت فعالياتها مساء أمس، وتستعد السينما العربية للعام القادم بأفلام أتمنى أن تصبح أكثر إبداعا وتألقا، وأتمنى أيضا للمهرجانات العربية أن تجد حلا لهذا التزاحم الذي يذكرنا بأغنية أحمد عدوية: «زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة ولا عدش رحمة... مولد وصاحبه غايب».