نهاية شهر العسل بين الفنانين و«الإخوان»

لجنة الدفاع عن حرية الإبداع في مواجهة الهجوم المرتقب

الفنانة روبي
TT

عندما سألوا عمار الشريعي عن إحساسه بالفن القادم بعد سيطرة الإخوان المسلمين والسلفيين على أغلب مقاعد مجلس الشعب (الغرفة الأولى من البرلمان المصري) مع تراجع حاد لكل الأحزاب التي ترفع شعار الليبرالية مثل تحالف الكتلة المصرية والوفد والتجمع، قال عمار في عبارة موجزة: «أنا بدأت أقرأ الفاتحة على روح الفن في مصر».. في الحقيقة لم تكن كل الآراء تشاطر عمار هذا الإحساس.. عدد من الفنانين قالوا أهلا ومرحبا بالإخوان، سوف يطهروننا من الأغاني الخليعة ومن أفلام العري والإسفاف، ونحن معهم سوف نشد على أياديهم ونشاركهم في الحرب على البذاءة! في ظل هذه الأجواء التي تباينت فيها الآراء ما بين مؤيد ومعارض، بدأت جماعة الإخوان تلاحق المسؤولين وكبار النجوم بالزيارات، وأطلقوا عليها تعبير «زيارات تطمينية»، بدأت بالنقابات الفنية في مصر، وعدد من النجوم، بل إن وزير الثقافة الجديد الدكتور شاكر عبد الحميد أعلن أنه التقى بهم ولا بأس من التعاون المشترك وأن أفكارهم وجدت لديه صدى طيبا. وبعدها بدأت التصريحات التي يعلنها عدد من النجوم تأخذ منحى مغايرا لما تعوّدت عليه الأغلبية منهم، البعض يقول أهلا ومرحبا، والبعض يؤكد أنه سوف يشارك في الأعمال الدرامية التي يستعد الإخوان لإنتاجها.. أرجو ملاحظة أن أغلب النجوم يبحثون عن الذي يحمي مصالحهم، الأمر لا يعنيهم كثيرا في الدفاع عن توجه فكري أو قناعة سياسية لديهم، بدليل أن مسلسل «الجماعة» على سبيل المثال، الذي تم تقديمه من خلال النظام المصري السابق في رمضان عام 2010 قبل انتخابات البرلمان قبل الأخيرة، كان معروفا أن المقصود بإنتاجه في ذلك التوقيت هو ضرب تنظيم الإخوان الذي كان يحظى بقوة دعائية في الشارع، حيث إن النظام المصري كان يطلق عليهم تعبير «المحظورة»، ورغم ذلك تكتشف مثلا أن من بين المشاركين في بطولة مسلسل «الجماعة» عبد العزيز مخيون المعروف بميوله الإخوانية، بل والمعارضة بوجه عام للنظام المصري السابق! الذي يحرك بوصلة أغلب الفنانين في مصر ليس الدفاع عن قيمة أو هدف، ولا يعنيهم إلا المكاسب التي يحققونها. وبالتأكيد أنا لا أتحدث عن كل الفنانين، ولكن كل الأحداث التي عاشتها مصر أظهرت أن قانون المصلحة هو الذي يحكم، والمصالح تتصالح في نهاية الأمر، وأن مبدأ «أبّجني تجدني» المنتشر في الوسط الفني هو الذي تخضع الأغلبية له.. تعامُل الفنانين مع شركات الإنتاج التي لها توجّه إخواني أراه أحد المؤشرات القادمة في الدراما سواء في الأفلام أو المسلسلات، والحقيقة أن شركات الإنتاج التابعة للإخوان ليست وليدة هذه الأيام وليست متعلقة بثورة 25 يناير ولا باستحواذ الإخوان والسلفيين على قرابة 80% من مقاعد البرلمان، دائما هناك أفكار ومشروعات لشركات لها توجه إخواني لعل أشهرها مسلسل وفيلم عن حياة حسن البنا مؤسس الجماعة، وذلك ردا على مسلسل «الجماعة» الذي عرضه التلفزيون المصري وعدد من الفضائيات قبل نحو عام ونصف، واعتبرته الجماعة وقتها أكثر عمل فني تم توجيهه ضدهم، رغم أن الذي حدث على أرض الواقع هو أن الناس تعاطفت مع حسن البنا وبدأ الشباب يقرأ عن تفاصيل حياة الجماعة. وأتصور أن المسلسل حقق نتائج عكسية وقتها للنظام.. بالتأكيد كان هناك تعنت وتعتيم على كل من ينتمي إلى الجماعة وعلى أفكارها، إلا أن ما يجري الآن هو نوع من التعويض عن كل تلك السنوات، إلا أنهم مع الثورة بدأت الشرعية تُمنح لهم وتغيرت الصفة التي يحملونها من «المحظورة» إلى «المحظوظة»! الإخوان يسعون الآن إلى تقديم رسائل تطمينية للفنانين، حتى الأعمال الفنية والنجوم الذين كان معروفا أن لديهم تحفظا على ما يقدمونه، بل إن بعضهم كان يطالب بجلد المخرجة إيناس الدغيدي مائة جلدة بسبب أفلامها الجريئة التي اعتبروها تستحق كحد أدنى هذا العقاب.. سبق لنائب تحت قبة البرلمان السابق ينتمي إلى الإخوان أن طالب بمنع نانسي وهيفاء وإليسا من الغناء في مصر، بل طالب المسؤولين بترحيلهم من مطار القاهرة وعدم السماح لهم بدخول البلاد، وضم إليهم أيضا روبي المصرية.. هذا الجناح الذي يرفع شعار التحريم في الفن يقول الآن إنه يسعى لتقديم الاطمئنان إلى قلوب الفنانين الخائفين من سطوتهم!! الجناح الفني الذي كنا نراه قبل ثورة يناير متشددا في كل ما يتعلق بالفن، صار الآن أكثر رحابة في التعامل مع الفن.. هل هي استراتيجية مرتبطة بسياسة خطوة بخطوة، أي أنهم لن يستطيعوا في لحظة واحدة تغيير ملامح الفن؟

الحقيقة هي أن المؤشر في درجة الإيمان بحرية الفن شهدت انفراجة ولا شك تدعو لقدر من الارتياح، هذا من الممكن أن تراه نظريا في تلك الاتصالات التي تمت مع عدد من الفنانين، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة ولا تزال مساحات من الخلافات بين نظرة جماعة الإخوان للفن وبين عدد من المبدعين.

مثلا المسؤول عن الدراما في جناح الإخوان محمد النجار بدأ يعلن أنه ينتقد عددا من أفلام عادل أمام مثل «التجربة الدنماركية»، وكذلك أفلام المخرج خالد يوسف، بل امتد الأمر إلى نجيب محفوظ بعد أن هاجمه بضراوة السلفي عبد المنعم الشحات، وجدنا أن المسؤول عن الدراما في الإخوان لا يقل عنه ضراوة في مهاجمة أدب نجيب محفوظ، فهو يعتبر أن نجاحه في السينما وزيادة مبيعات كتبه تعود إلى أنه يقدم الفجور في أعماله الأدبية، وقارنه بكل من الأديبين عبد المنعم الصاوي وعبد الحليم عبد الله، مشيرا إلى أن إحجام السينما عن الحفاوة بإبداعهما الروائي بالقياس إلى نجيب محفوظ يعود في جانب كبير منه إلى طبيعة أدب نجيب المليء بالمشهيات التجارية، بينما أعمالهما الأدبية كانت خالية من تلك المشهيات. وكم تظلم هذه الآراء نجيب محفوظ وفي نفس الوقت تشير إلى أن توجه الإخوان إلى الفن سيظل محاطا بنظرة أخلاقية تصل إلى حدود التزمت، خصوصا في ما يتعلق بالسينما.

ويجب أن نضيف إلى تلك المعادلة أننا في مصر مثلا عرفنا قبل 14 عاما مصطلحا يقترب كثيرا مما يدعو إليه التيار الإسلامي وهو «السينما النظيفة»، الذي ارتبط زمنيا مع بزوغ نجومية محمد هنيدي في فيلم «إسماعيلية رايح جاي». كان المضحكون الجدد كما أطلق عليهم وقتها، وأعني بهم الجيل الذي عرفناه بعد هنيدي مثل هاني رمزي وأحمد آدم ومحمد سعد وأحمد حلمي، يقدمون أعمالا فنية لا تجد فيها أي حضور للمرأة كأنثى، لا توجد حتى تلك القبلات التي تعودنا عليها في نهاية الفيلم بين البطل والبطلة وهما في طريقهما إلى المأذون.. لقد كانت هذه اللقطة هي أشهر نهاية يلجأ إليها السينمائيون حيث يتم تصوير البطل والبطلة وهم في الحنطور في طريقهما للزفاف وتوتة توتة فرغت الحدوتة.. حتى تلك اللقطة كانت في السنوات الأخيرة تحمل خروجا على طبيعة ما أطلق عليه «السينما النظيفة»، ولهذا صارت ممنوعة، وليس فقط نجوم الكوميديا هم الذين طبقوا هذه المعايير على أفلامهم، ولكن أيضا الفتيان الأوائل في السينما لديهم نفس التحفظ في التعامل مع تلك المحاذير مثل كريم عبد العزيز.

السينما النظيفة لم تكن تقع في إطار أفلام ينتجها الإخوان، ولكن كانت تقدم من أجل إرضاء ذوق جمهور صار أكثر ميلا إلى التزمت في تقبله للعمل الفني، فهو كان يتسامح في الماضي مثلا مع مشاهد بها مايوه أو قبلة للنجمات بحجم شادية وهند رستم وفاتن وماجدة، إلا أنه صار لا يتقبل ذلك من نجمات هذا الجيل وصار معروفا أن أغلب النجمات يعلنّ في أحاديثهن أنهن ضد ارتداء المايوه والقبلات والمشاهد الساخنة، وهكذا مثلا تغيرت بوصلة الإنتاج والأفلام التي كانت تلعب بطولتها نادية الجندي ونبيلة عبيد حتى النصف الثاني من التسعينات وتعتمد في جزء من تسويقها على تلك المشاهد، والغريب أن الموزع السينمائي محمد حسن رمزي نائب رئيس غرفة صناعة السينما المصرية الذي حقق الملايين من خلال تلك الأفلام التي لعبت بطولتها نادية ونبيلة، صار الآن هو أكثر المنتجين حرصا على توزيع الأفلام النظيفة، ويشارك أيضا في إنتاجها، وهو بالمناسبة لا يزال يقف في مرحلة متوسطة وعلى مسافة واحدة بين كل الأطياف، بينما يؤيد التيار الإسلامي ويؤكد أنه لن يكتفي فقط بتوزيع أفلامهم، ولكنه سينتج لهم أيضا أفلاما، وانضم في نفس الوقت إلى جبهة جديدة من الفنانين ترفع شعار الدفاع عن حرية المبدعين، من بين أعضائها المخرج داود عبد السيد والمنتج محمد العدل والفنانتان ليلى علوي وإسعاد يونس، وهذه اللجنة هدفها الأساسي هو التصدي لمحاولات الإخوان في فرض نظرتهم وقواعدهم وضوابطهم على السينما..

الأمر سيظل على هذا النحو، الصورة لا تزال غير واضحة المعالم، التيار الإسلامي من خلال جناحه الفني يقول إن هناك معايير سبعة للعمل الفني، لا يفصح مباشرة عن تلك المعايير، ولكن من الممكن أن تدرك أنها تراعي الأبعاد الأخلاقية في التعبير، وهم يرددون دائما قناعات الشيخين محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي التي يلخصونها في تلك المقولة الشهيرة «حلاله حلال وحرامه حرام»، وهو تعبير فضفاض حيث يشبهون الفن بإطار أو وعاء يظل الفيصل هو: ما الذي تضعه في الوعاء؟ هل هو حلال أم حرام؟ هذا هو الفيصل. ويرفض الإخوان أي محاولة لفصل الفن عن تلك الرؤية الدينية التي تخضع كل شيء متعلق بالإبداع لقواعد مطلقة لا تحتمل أن ينظر إليها بقدر من الاختلاف.. التحريم بطبعه قطعي، وحتى الآن لم يعلن مثلا الإخوان أو الجناح السياسي في الإخوان وهم حزب الحرية والعدالة عن موقفهم من فن الباليه، هل يوافقون على أن تستمر عروضه في الأوبرا؟ إنهم حتى الآن يقولون إنهم لن يدلوا برأي قطعي، هم مثلا لا يجدون غضاضة في الرقص الشعبي الذي تقدمه فرق مثل «رضا للفنون الشعبية»، ولكنهم لم يمنحوا مثل تلك الموافقة للباليه أو لفرق الرقص التعبيري.

هم لا شك لديهم أجندة فنية سوف ينتجون أعمالا في هذا الإطار تعبر عن قناعاتهم الفكرية، يقدمون من خلالها الفن الذي يعتقدون أنه هو المطلوب، وفي هذا لا يوجد من يملك حق الاعتراض، فسوف تنشأ شركات إنتاج لديها فكر تريد له الذيوع والانتشار وفكر آخر ترفضه، كما أنهم سوف ينتقون الفنان الذي يتعاملون معه، فهو بالطبع الذي يقتنع بأفكارهم.. كل ذلك من حقهم، وهو لا يخيف أحدا، ولكن على شرط أن لا يستغل الإخوان مع السلفيين حصولهم على الأغلبية في البرلمان ويبدأوا في فرض قوانين خاصة تكبل روح الفنان والإبداع.. تلك هي النقطة الفارقة في علاقة الإخوان بالفن، وفي هذه الحالة أنا أعتقد أنه لو لجأ التيار الديني إلى وضع هذه القوانين مستغلين الأغلبية البرلمانية، فسوف تعلو الأصوات المعارضة وتبدأ معارك بين من يملك أغلبية برلمانية وبين مبدعين يبحثون عن الحرية! أعتقد أن الإخوان كحزب سياسي (الحرية والعدالة) وأيضا كتوجه فني ودرامي من خلال التنظيمات التابعة مباشرة لمكتب المرشد العام، لن تتعجل بإصدار قوانين لتكبيل الفن، ولكن هذا لا يمنع أنهم سوف يسعون إلى فرض رؤيتهم للفن، وبعد أن يملكوا الخط الدرامي والفني البديل، من الممكن أن يسارعوا بإصدار قوانين تمنع كل عمل فني يرونه من وجهة نظرهم يقع في إطار التحريم، وبعدها سوف ينتهي شهر العسل المزعوم بين الفنانين والإخوان!!