«ركلام».. تحرش سينمائي بالجمهور

غادة عبد الرازق ترقص على السلم بين التمثيل والإغراء

غادة عبد الرازق
TT

لا شك أن هناك فصيلا قويا في مجلس الشعب المصري (البرلمان) لديه ثأر دفين مع الفنانين، وبعضهم يحرم الفن، والمعتدلون منهم يرددون تلك المقولة الشهيرة: «حلاله حلال وحرامه حرام»، وهو تعبير، كما ترى، فضفاض تستطيع أن تضع تحته كل أنواع الفنون الأخرى لتصبح بنسبة ما قابلة للإباحة أو التحريم.

من المؤكد أنه، حتى المعتدلون، في مجلس الشعب الذين لديهم قدر من التسامح في التعامل مع الفن، من الممكن أن يحظوا بحماية شعبية لو أنهم رفعوا شعار محاربة التردي الفني الذي تعيشه مصر وضربوا مثلا بفيلم «ركلام» الذي عرض مؤخرا بعد أن كان مقررا تأجيله لإحساس أبطال الفيلم أن الظرف النفسي للجمهور لا يسمح بالعرض الآن، وأتصور أن الفيلم الذي يلقى هزيمة مستحقة في دور العرض السينمائي بسبب ضآلة الإقبال، يتحمل هو المسؤولية كاملة عن هذا الإخفاق.

«ركلام» وهو تعبير شائع في أوساط عالم «الكباريهات» والمقصود بهذه الكلمة فتيات الملهى الليلي الذين عليهن مجاراة الزبائن ودفعهم لشراء زجاجات الخمر وينتقلن بعد تلك المداعبات مباشرة إلى عالم الدعارة ويمنحن أجسادهن لمن يدفع.. الفيلم يعتقد أنه يقدم رسالتين؛ الأولى هي أن الفساد الذي عاشته مصر كان نظام مبارك هو المدان الأول فيه رغم أنه، ولا أدري السبب في تعمد أن لا توضع صورة لمبارك في أقسام الشرطة رغم أن كل أقسام الشرطة كانت تضع صورته، كان من الممكن أن يقدم هذه الرؤية سينمائيا بمزج صورة لمبارك مع السيدات المنحرفات. الثانية أنه يريد أن يقول بأن هؤلاء المنحرفات هن أبناء المجتمع وعلى الجميع أن يتحملوا مسؤولية الانحراف؛ إلا أن الحقيقة السينمائية من خلال الشريط لم نر فيها شيئا من كل هذا، ما رأيته يقدم الكثير من المشاهد تستطيع أن تعتبرها من المحفوظات السينمائية بغرض التحرش بالزبائن لدخول السينما بتلك - الرشة الجريئة – من المشاهد الساخنة لعل وعسى يُقبل الجمهور؛ ولكن «لا لعل ولا عسى»، لأن مؤشر الشباك خيب كل التوقعات.

الفيلم افتقد تواصله مع الناس، ورأيت عددا من رواد السينما وهم يغادرون دار العرض آسفين على ضياع وقتهم في هذا الهراء قبل أن ينتهي النصف الثاني من الأحداث، وذلك على الرغم من حالة الإسراف في تقديم المشاهد التجارية بين كل المشاركات في بطولة الفيلم، التي أتصورها قد لعبت دورا عكسيا كانت عامل طرد جماهيري أكثر من كونها عامل جذب! أكثر فنانة تستطيع أن تعتبرها قد دفعت فاتورة سقوط الفيلم هي لا شك غادة عبد الرازق؛ فهي لا تزال في طور الإعداد لصناعة نجمة جماهيرية سينمائية على طريقة نادية الجندي ونبيلة عبيد، هي بالطبع تتمنى ذلك؛ ولكن من الواضح أنها لا تعرف أين هي البوصلة ولا خارطة الطريق التي كان عليها أن تسلكها.

استطاعت غادة أن تحقق النجومية عبر الشاشة الصغيرة مهما اختلفت مع اختياراتها؛ إلا أنها من خلال مسلسلات «الباطنية» ثم «زهرة وأزواجها الخمسة» وصولا إلى «سمارة» في رمضان الماضي، صارت تعتبر رقما في معادلات دراما الشاشة الصغيرة، مما دفعها إلى أن تتطلع أيضا لتحقيق المكانة نفسها على شاشة السينما.

تعتقد غادة عبد الرازق أن هناك من يترصد لها ويريد الإطاحة بها بعيدا عن النجومية التي عرفتها في السنوات الأربع الأخيرة، وهي بالفعل واجهت أكثر من عائق؛ إلا أنها استطاعت أن تقفز فوقها، وربما كان أقسى ما واجهها هي تلك القائمة السوداء التي تصدرتها بعد ثورة «25 يناير (كانون ثاني)»، ورغم ذلك، فإنها في العام الماضي عرضت مسلسل «سمارة» وفيلمي «بون سواريه» و«كف القمر»؛ إلا أن النجاح السينمائي لم يتحقق.. كان لها عدد من الأفلام مع المخرج خالد يوسف الذي شكلت معه ثنائيا قبل ثورة يناير في أفلام «حين ميسرة» و«الريس عمر حرب» و«دكان شحاتة» و«كلمني شكرا»، وصولا إلى «كف القمر».. لم تكن هي البطلة؛ ولكن كانت لها مساحة إبداعية حتى في «كف القمر» الذي لم يحقق نجاحا جماهيريا في شباك التذاكر، وشهد وصول «غادة» وخالد صالح إلى خط النهاية؛ إلا أنها كانت هي الأفضل بين كل من شارك في الفيلم؛ حيث كان الرهان في أغلب هذه الأفلام على الممثلة غادة.

لا شك أن فيلم «ركلام» تستطيع أن تعتبره نموذجا فجا لكيفية صناعة فيلم رديء من أجل أن تصل إلى تحقيق أي قدر من الربح المادي؛ ولكن على أرض الواقع، عانى الفيلم من حالة إحجام فاقت كل التوقعات! كان هناك تردد في موعد عرضه.. جاءت أحداث مذبحة استاد بورسعيد، وقالت غادة في بيان حرصت على إصداره وتوزيعه على مجال إعلامي واسع، إنها تعاطفا مع الشهداء، أرجأت العرض، ثم قبل أن تنتهي مراسم العزاء عرض الفيلم، ومن الواضح أن تحديد موعد العرض جاء على غير إرادتها.

«ركلام» تستطيع أن تعتبره واحدا من التوليفات «السبكية».. أحمد السبكي هو المنتج؛ إلا أنه كثيرا ما يتدخل في تفاصيل صناعة الفيلم الدرامية والفنية، وتستطيع أن تقرأ في أغلب أفلامه مثل «شارع الهرم» و«عليّ الطرب بالثلاثة» و«أيظن؟» وغيرها، تلك الحالة «السبكية» التي من الممكن أن تجدها في هذه المعادلة: عدد من المشاهد الجنسية، والتعاطي، والدماء، والاغتصاب.. ولا تنسى أن أغلب المشاهد تصور في الكباريه و«يا ريت رقصة وغنوه» أو أكثر، ولو أضفت نكتة هنا وأخرى هناك، ودمعة هنا وأخرى هناك، فلا بأس من كل ذلك، لأنه ببساطة: هو المطلوب.. إلا أن الجمهور الذي خدعه الطعم وذهب إلى أفلام شبيهة قبل بضعة أشهر مثل «شارع الهرم»، كانت لديه هذه المرة حصافة، وهكذا حرص على أن لا يلدغ من الجحر نفسه مرتين.

يتناول الفيلم حكاية أربع فتيات كل منهن تبحث عن وسيلة للحياة؛ ولكنها بسبب الفقر وسوء نوايا الآخرين لا تجد غير العمل في «الملهى الليلي» ومنه إلى الدعارة، وهكذا تصبح الفرصة مهيأة لكي ندخل إلى عالم القوادين، ويقدم المخرج صراعا بين أكثر من قواد وقوادة، وتواطؤا من أجهزة الشرطة، وتلاعبا بين المحامين في العثور على البراءة بسبب بعض الأدلة التي تُسقط مثل هذه القضايا، وتنتهي الأحداث والسيدات الأربع في القفص بعد أن حكمت المحكمة حضوريا على المتهمات بالسجن أربع سنوات لكل منهن وهن: غادة عبد الرازق، ورانيا يوسف، وأنجى خطاب، ودعاء سيف.

حضور الرجال في الفيلم الذي كتبه مصطفى السبكي «هامشي جدا»، فهو صراع نسائي بالدرجة الأولى.. الفيلم قائم كسيناريو على «الفلاش باك» حيث تبدأ الأحداث بلحظة القبض على بطلات الفيلم متلبسات في جريمة الدعارة، وفى الزمن السينمائي من التخشيبة إلى النطق بالحكم تسرد قصة حياتهم.. والأحداث للفتيات الأربع تتداخل، والمفروض أن الجمهور عليه أن يتعاطف مع النساء؛ ولكن الذي أفسد كل ذلك، هو أن الناس لم تشعر بأي من الفتيات بوصفهن ضحايا؛ ولكنهن مذنبات؛ بل إن حكم المحكمة بالسجن أربع سنوات لم يشف غليل المشاهد الذي كان يتوقع عقابا أشد.. ولهذا خسر الفيلم معركته من البداية، لأن الجمهور من الممكن بالطبع أن يتعاطف مع فتاة ليل، وقبل أن يحاكمها أخلاقيا يوجه معركته ضد المجتمع؛ ولكن السيناريو لم يتمكن من اكتساب الجمهور إلى ملعبه وخسر الفيلم ضربة البداية.

في قانون الدراما، ينبغي مراعاة الجرعة، وفي الفيلم التجاري إذا لم تستطع أن تضبط تلك الجرعة من المشاهد الجنسية، سوف يشيح الجمهور بوجهة عن الفيلم، وهذا هو ما حدث.. إن المخرج أسرف كثيرا وهو ينتقل من مشهد جنسي إلى آخر لا يقل عنه ضراوة، ومن حوار يحمل تجاوزا في عدد من كلماته إلى جملة أخرى أشد سخونة وضراوة وخدشا للحياء من الجملة الأولى، كل ذلك، وهو يعتقد أنه يثير شغف الجمهور أكثر وأنه يضمن أن يأتي إليه خاضعا قانعا بكل هذه المشاهد.. الجرعة الزائدة كانت هي السبب الرئيسي في إحجام الناس، بالإضافة إلى أن الممثلتين إنجي خطاب ودعاء سيف كانتا في حالة ضعف شديد في الأداء، ولم تستطيعان أن تقفا أمام كل من رانيا يوسف وغادة عبد الرازق، وهي بالطبع مسؤولية المخرج الذي لم يعرف كيف يوجه الفنانتين الجديدتين، وأيضا لم يضبط الجرعة.

في علم الاقتصاد، هناك قانون اسمه «تناقص الغلة»، وهو يعني أن هناك أرضا تحقق مقدارا من الحصاد يتوافق مع عدد العمال، الذين ينبغي لهم أن يساهموا في زراعة الأرض ويحدث التناقص، إذا زاد العدد عن المطلوب أو نقص.. وأطلقوا على ذلك «تناقص الغلة»، لأنه بعد أن يصل إلى الذروة ويزيد عدد العمال يتضاءل النتاج، وهذا هو بالضبط ما وقع فيه المخرج علي رجب في فيلمه الروائي التاسع، كان يسرف في تلك المشاهد معتقدا أنها سوف تثير نهم الجمهور.. إلا أنه أحجم عنه! المخرج علي رجب شكل في بداية مشواره نوعا من الثنائية مع الكاتب بلال فضل، وقدما أفلاما بعضها كان يحمل مشروعا لعمل فني جيد حتى لو لم يكتمل مثل «صايع بحر» و«بلطية العايمة»؛ ولكنه هذه المرة لم يكن يراهن سوى على الجمهور، وانتصر الجمهور وكسب الرهان بإحجامه عن الذهاب إلى دار العرض، ولاقى الفيلم ولا يزال هزيمة نكراء، وتحملت غادة عبد الرازق النصيب الأكبر من تلك الهزيمة، لأنها ترقص فنيا على السلم.. لا تدري أنها تمتلك موهبة ممثلة من العيار الثقيل، فهي تعتقد أنها من الممكن أن تتحول إلى نجمة إغراء، ولهذا تعثرت في «ركلام»!