«الخروج».. مسموح به في «دبي» ممنوع في «الأقصر»

الرقابة المصرية تراجعت عن التصريح بالفيلم خوفا من غضب الكنيسة

TT

«من لَسَعَتْه الشُربة ينفخ في الزبادي».. مثل مصري شهير من الممكن أن تكون قد رأته الرقابة عندما رفضت التصريح بعرض فيلم «الخروج» عرضا محدودا في مهرجان الأقصر السينمائي الذي انتهت فعاليات دورته الأولى قبل ثلاثة أيام.. نوع من «النفخ في الزبادي».

في أكثر من قرية مصرية شاهدنا في الآونة الأخيرة ثورة من الغضب بسبب اكتشاف علاقة عاطفية تجمع بين مسلمة ومسيحي أو مسلم ومسيحية، وفي العادة تنشب المعارك ويسفر الأمر عن ضحايا من الجانبين، ومن الواضح أن هذا السيناريو مر على خيال الرقيب وتخوف من أن يؤدي عرض الفيلم المصري «الخروج» حتى ولو عرضا محدودا للنقاد والصحافيين ولجنة التحكيم، إلى ثورة مماثلة ليس في المهرجان؛ ولكن في مدينة الأقصر بصعيد مصر التي تشهد روح التسامح الديني الذي يغلف العلاقات بين المسلمين والأقباط هناك. ورغم ذلك، فإنه كان من الواضح أن تخوف الرقيب لم يكن له منطق ولا محل من الإعراب الفني، لأن العرض المحدود بعيدا عن الجمهور دائما ما تلجأ إليه الرقابة؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالعرض في مهرجان سينمائي.

امتنع الرقيب المصري سيد خطاب عن منح الفيلم الروائي «الخروج» تصريحا بالعرض المحدود على الرغم من أن الفيلم قد سبق عرضه قبل أكثر من عام في مهرجان دبي قبل الأخير في ديسمبر (كانون الأول) عام 2010، ورغم ذلك، فإنه صار ممنوعا من العرض في مصر سواء للجمهور أو المهرجانات.

أصدر النقاد والصحافيون الذين شاركوا في مهرجان الأقصر بيانا يشجب موقف الرقابة التي لجأت إلى قرار المنع والمصادرة، كما أن جبهة الدفاع عن الحرية التي تكونت مؤخرا في مصر أصدرت بدورها بيانا ترفض فيه موقف الرقابة.

فيلم «الخروج» هو أول إخراج لهشام العيسوي الذي شارك أيضا في كتابة السيناريو.. تناولت الأحداث عائلة مصرية تدين بالمسيحية.. إلى هنا، والأمر يبدو عاديا. وحرص المخرج على أن يقتحم الخط الأحمر في التعامل مع الشخصية القبطية وتغلغل أكثر في تفاصيل هذه العائلة لنرى الابنة الكبرى، التي لعبت دورها صفاء جلال، وقد صارت فتاة ليل تبيع شرفها من أجل أن تضمن حياة كريمة لابنها. الشقيقة الصغرى، الوجه الجديد ميرهان، على علاقة غير شرعية بشاب مسلم لعب دوره الوجه الجديد محمد رمضان، وتريد الزواج منه وتهدده بأنها حامل. زوج الأم أحمد بدير يلعب القمار ويستحوذ على أموال العائلة عنوة. بالطبع لو أن هذه العائلة مسلمة فسوف يتقبلها المجتمع المصري بمسلميه وأقباطه من دون حساسية؛ ولكن طبقا لكل التجارب السابقة في التعامل مع الشخصيات القبطية التي تحمل أي قدر من الإدانة الأخلاقية في الدراما، سواء المسلسلات أو الأفلام، فإن الغضب؛ بل والمظاهرات داخل الكنيسة وربما أيضا خارجها، هو المصير الذي ينتظر مثل هذه الأعمال الفنية، لأن البعض يقطع الخط الفاصل بين الشخصية الدرامية والدين الذي تعتنقه الشخصية فتصبح سلبيات الشخصية بمثابة طعنا في الديانة. والحقيقة أن غياب الشخصيات القبطية عن الأعمال الدرامية أدى إلى قدر لا ينكر من الحساسية! تعودنا في الدراما أن نضع أوراق «السوليفان» على الشخصية المسيحية وكأننا نرفع راية مكتوبا عليها «ممنوع اللمس أو الاقتراب». الإحساس العام الذي يسيطر غالبا على صناع العمل الفني، أن المتفرج لا يريد أن يرى شخصية من لحم ودم وأنه فقط يقرأ عنوانها؛ لكنه لا يتعمق في تفاصيلها. كان يبدو وكأن هناك اتفاقا ضمنيا على ذلك بين صناع العمل الفني والجمهور.. الجميع ارتاح إلى استبعاد الشخصية القبطية! المعالجات الفنية التي اقتربت من العائلة المصرية القبطية وجهت لها انتقادات مباشرة من الكنيسة الأرثوذكسية في مصر على الرغم من أن الهدف الفكري لتلك الأعمال لم يكن هو الحديث عن الديانة بقدر ما هو تناول عائلة مصرية مسلمة أو مسيحية.

على سبيل التذكرة فقط، فإن السنوات الأخيرة شهدت أكثر من غضبة عارمة بسبب أعمال فنية تعاملت بحساسية وهدوء مع العائلة القبطية في مصر، ورغم ذلك، فإنه قد وجهت لها انتقادات حادة منها مثلا مسلسل «أوان الورد» الذي لعبت بطولته سميحة أيوب ويسرا.. سر الغضب هو أن «سميحة» لعبت دور امرأة قبطية تزوجت مسلما، ولم يقلص مساحات الغضب أن مخرج المسلسل سمير سيف مسيحي متدين.. لقد كان في المسلسل فريق متعادل من المسلمين والأقباط.. الكاتب وحيد حامد مسلم والمخرج مسيحي، وكانا حريصين على أن يشاركا كفنيين خلف الكاميرا حتى يضمنا ألا يثيرا حفيظة أحد.. نصف العدد مسلمون والنصف الثاني أقباط، ورغم ذلك، فإنه قد ازدادت الاحتجاجات بين عدد من الأقباط واضطر البابا شنودة بابا الإسكندرية إلى إقامة سحور قبل نهاية رمضان في الكاتدرائية لإنهاء هذا الاحتقان الذي اشتعل في رمضان 2001 وقت عرض المسلسل.. مسلسل «بنت من شبرا» الذي عرض بعدها بنحو ثلاث سنوات ببطولة ليلى علوي، أثار الغضب لأن البطلة أشهرت إسلامها، حتى إن التلفزيون المصري الرسمي بعد أن أعلن عن عرضه في رمضان تراجع قبل 24 ساعة فقط من بداية البث، ولم يعرض المسلسل بعدها؛ إلا في قناة خاصة، وكأن الدولة تريد أن تقول للأقباط إنها ليست مسؤولة عن العرض. مسلسل «مين اللي ما يحبش فاطمة» بطولة شيرين سيف النصر واجه أيضا مساحات من الاحتجاج.. المسلسل قصة الراحل أنيس منصور، وذلك لأن البطلة أيضا أشهرت إسلامها في نهاية الأحداث. مسلسل «يا رجال العالم اتحدوا» كتبه عاطف بشاي، ورغم ذلك، فإنه لم الأمر يخلُ من غضب، لأن حسن حسني كان يؤدي في المسلسل شخصية رجل مسيحي يريد الطلاق من زوجته، ولهذا يفكر في تغيير الطائفة، وليس الديانة، حتى يتمكن من الحصول على الطلاق.. اعتبر هذا السلوك من بعض الأقباط يتنافى مع الدين! أما الفيلم الذي حظي بأكبر مساحة من الغضب فهو «بحب السيما» عام 2004 إخراج أسامة فوزي وتأليف هاني فوزي وبطولة ليلى علوي ومحمود حميدة.. كان أول فيلم يتناول عائلة مسيحية؛ الزوج والزوجة والابن.. لم يتحمل قطاع عريض من الأقباط ذلك، خاصة أن الفيلم اتهم من قبل بعض المغالين بين «الأرثوذكس» بأنه يروج للمذهب «البروتستانتي». شكلت الدولة وقتها لجنة للتصريح بالفيلم، وحرص آنذاك الرقيب مدكور ثابت على أن يشارك في عضويتها أكبر عدد من الأقباط من نقاد وكتاب، ورفضت اللجنة التصريح بالفيلم؛ بل طالب بعض أعضائها بالاستعانة برجال الكنيسة من الطوائف الثلاث الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت لأخذ الموافقة.

أمام ذلك الرفض تم تشكيل لجنة أخرى أيضا ضمت أغلبية عددية من الأقباط روعي في تشكيلها أن يكونوا أكثر مرونة في تقبل وجود عائلة مسيحية في الدراما، وبالفعل وافقت اللجنة على الفيلم من دون محذوفات وعرض الفيلم، ورغم ذلك، فإن الإقبال جاء ضعيفا على المستوى الجماهيري؛ ربما لأن الجمهور لم يتعود أن يرى مجتمعا قبطيا على الشاشة الكبيرة بكل التفاصيل الاجتماعية والدينية.

الحقيقة هي أن المشاهد المصري وأيضا العربي تعود على رؤية الشخصيات المصرية في الأغلب مسلمة، وإذا قدمت شخصية قبطية، فإنها تحظى بكل المعالم الإيجابية.. مثلا «مرقص أفندي» في «أم العروسة»، الذي عرض قبل نحو 47 عاما، هذا الدور الذي أداه منسي فهمي، كان عليه أن يتستر على عماد حمدي وينقذه من الفضيحة، حتى لا يعرف أحد أنه اختلس من الخزينة للإنفاق على فرح ابنته.. أما في فيلم «حسن ومرقص» 2008 حيث أدى عادل إمام دور «مرقص»، ولعب شخصية أستاذ علم اللاهوت، فقد حرص عادل إمام على أن يلتقي البابا شنودة ويطلعه على السيناريو قبل الشروع في تصوير الفيلم، وبالفعل تم إجراء بعض التعديلات الدرامية ليصبح البطل أستاذا في علم اللاهوت بدلا من كونه في السيناريو الأصلي «قسيسا». وبالطبع، فإن موافقة البابا لعبت دورا في تقبل عدد كبير من الأقباط لشخصية «مرقص»، كما أن السيناريو الذي كتبه يوسف معاطي قدم إطارا هندسيا صارما ليضمن الحياد الدرامي التام بين المسلمين والأقباط في كل المواقف، وتلك «السيميترية»، أي التماثل الشديد في الأحداث من أجل أن لا يشعر المتفرج بأي انحياز، خصمت الكثير من قيمة الفيلم.. أصبحنا بصدد معادلة حسابية وليس عملا فنيا.. تكرر الأمر مؤخرا في فيلم «واحد صحيح» في الدور الذي أدته كندة علوش؛ حيث إن والدها في الأحداث أشهر إسلامه ليتزوج من مسلمة أحبها، بينما هي رفضت أن تتزوج من المسلم هاني سلامة الذي أحبته؛ ولكنها قررت أن تلجأ للكنيسة لتصبح راهبة، وهكذا وجد الفيلم طريقه للعرض بعيدا عن الغضب، لأن المخرج حرص على أن يراعي التوازن في الشخصيات المسيحية التي ترفض في النهاية الزواج من مسلم لأن هذا ضد تعاليم الديانة المسيحية! هذه المرة مع فيلم «الخروج» لا توجد هذه المعادلة على الرغم من أن المخرج، ربما بعد نصيحة من أحد العاملين بالفيلم، قدم علاقة هامشية عاطفية موازية بين قبطي ومسلمة، ليصبح هناك خطا موازيا للخط الدرامي الرئيسي الذي يجمع بين مسيحية ومسلم.. مأزق هذه الأفلام هو أن المتفرج لم يألف رؤية شخصيات قبطية تمارس أي قدر من الانحراف طوال تاريخ الدراما في مصر، ولهذا تنتقل الحساسية التي نراها في الشارع إلى دار العرض، وبدلا من أن يشاهد الجمهور شريطا سينمائيا به عائلة مصرية بعيدا عن ديانتها، سوف يراها عائلة قبطية؛ بل ويعتبرها البعض في هذه الحالة تحمل إدانة شخصية وليست درامية، الغريب أننا نكتشف أن عددا بين المثقفين الأقباط يرفض أن يرى شخصية قبطية منحرفة.

إلا أن الحل لا يمكن أن يصبح هو المصادرة؛ ولكن أن يألف الجمهور مشاهدة العمل الفني ولا يرى شخصيات تعبر عن أديان بقدر ما يراها تحمل هموم وأحلام وإحباطات عائلة مصرية.

يجب أن نعترف بأن ما نراه في الدراما من حساسية تتحمل وزره الحياة الفنية والثقافية المصرية، لأنه كلما طال الابتعاد والغياب، زادت الحساسية، ولكن على صناع الأعمال الفنية أن يواصلوا الطريق ويمنحوا الشخصيات القبطية حضورها الدرامي.

لدي ملاحظات متعددة على فيلم «الخروج»؛ ولكني أدافع عن حق المخرج في أن يرى فيلمه النور ويعرض على الناس، وأن تراجع الرقابة المصرية موقفها في مصادرة الفيلم الممنوع عرضه حتى في المهرجانات، وهي سابقة خطيرة لم تحدث من قبل توحي مع الأسف بأن المصادرة سوف تصبح سيفا باترا في يد النظام.

سبق للرقابة في مصر أن صرحت بعرض الفيلم اللبناني «هلأ لوين» للمخرجة نادين لبكي قبل شهرين فقط، على الرغم من أننا نرى في الفيلم شخصيات قبطية تتحول للإسلام وشخصيات مسلمة ترتدي الصليب، لأن الفيلم اللبناني أراد توصيل رسالة؛ وهي التصدي للطائفية، وهو ما حاول أيضا فيلم «الخروج» أن يعبر عنه.. ولكنه في ما يبدو «النفخ في الزبادي»!