فلسطين وثورات الربيع وعبد الناصر.. أبطال على الشاشة

مهرجان «الجزيرة» بطعم السياسة

TT

في افتتاح مهرجان «الجزيرة» للأفلام الوثائقية كان الحضور لافتا للسينما الفلسطينية التي تناولت الصمود ضد الاحتلال الإسرائيلي من خلال فيلمي «مونولوجات غزة» و«الحجارة المقدسة»، وتم أيضا تكريم المذيع تيسير علوني، الذي أدين بالحبس سبع سنوات وقضى العقوبة في أحد السجون الإسبانية بتهمة التعامل مع تنظيم القاعدة، رغم أن الرجل لم يقُم إلا فقط بدوره المهني. وفي الختام شاهدنا أن السينما الفلسطينية تحصد الكثير من الجوائز الكبرى للمهرجان، ويشارك في توزيع الجوائز الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، في سابقة هي الأولى من نوعها عندما يحضر رئيس جمهورية مهرجانا سينمائيا، وحصد الجائزة الكبرى الذهبية في المهرجان فيلم «نصف ثورة» الذي تناول ثورة اللوتس المصرية، وتحديدا نصفها الأول، ومن أين جاءت التسمية «نصف ثورة»، بينما كان حاضرا للحفل كضيوف شرف الدكتورة هدى جمال عبد الناصر، ابنة الزعيم الوطني، والكاتب محفوظ عبد الرحمن، مؤلف فيلم «ناصر56».

مزج السياسة بالثقافة هو واحد من الملامح التي نراها في الكثير من التظاهرات الفنية، ولكن ينبغي أن لا يطغى هذا الوجه على الفعاليات الثقافية، وأن تتوجه لجان التحكيم إلى مؤازرة الأفضل فنيا وليس الذي يتوافق سياسيا، والحقيقة هي أن الجوائز التي أعلنت الأحد الماضي في مهرجان «الجزيرة» للأفلام الوثائقية في دورته الثامنة وحصدتها الأفلام السياسية كانت ترتكن أيضا إلى قيمة فنية، وهكذا تمكن المهرجان من عبور هذا المأزق.

مما لا شك فيه أن اختيار فيلمي الاحتفال لم يكن عشوائيا، ورئيس المهرجان المخرج عباس أرناؤوط كان يقصد أن يقول المهرجان كلمته ضد الممارسات الإسرائيلية من خلال تلك الرؤية الفنية.

«مونولوجات غزة» للمخرج خليل المزين كان يجسد من خلال كواليس فرقة مسرحية «روح المقاومة»، بينما فيلم «الحجارة المقدسة» يفضح الممارسات الإسرائيلية في سرقة الحجارة الفلسطينية وتعريض حياة المواطن الفلسطيني للمخاطر بسبب ما تبثه المحاجر من أتربة ورذاذ وسموم تسكن في الصدور.

بين أفلام المهرجان التي قاربت 200 فيلم في مختلف الأقسام كانت الثورة حاضرة في أكثر من فيلم تناول ثورة اللوتس المصرية، وكان من بينها عيون أجنبية مثل هذا الفيلم السويسري «اسمي مواطن مصري» الذي تناول تلك العيون التي اقتلعتها بنادق القناصة وهي تتوجه إليها ومع سبق الإصرار. حرصت المخرجة عايدة شلابفر على أن تلتقي بهؤلاء الأبطال، ولا أنسى كلمة هذا البطل الذي قال: «كنت أريد أن أضحي بكل جسدي، ذهبت إلى الميدان من أجل مصر، وأنا لا أبالي بالثمن، ولم أندم على فقدان عيني، ولو عادت بي الأيام لذهبت مرة أخرى».

إنها العيون التي حصدتها نيران القناصة في تصويبات مباشرة تخترق الجدار الشفاف وتواصل الاختراق لتصل إلى الجمجمة، الهدف ليس فقط فقأ العين، ولكن الاستراتيجية هي أن تصل الرسالة إلى الجميع: «لا شيء أغلى من العيون، وسوف نحصدها». وجاء الرد: «لا شيء أغلى من الوطن، وسوف نحقق له الحياة».

المخرجة السويسرية عايدة شلابفر في فيلمها التسجيلي القصير «اسمي مواطن مصري» تحمل وثيقة محملة بالأدلة وناطقة بالإبداع تؤكد أن التصويب على العيون لم يكن عشوائيا، وأن الهدف لم يكن فقط فقأ عين هؤلاء الأبطال، ولكن كسر عيون كل المصريين حتى لا يطالب أحد بالحرية.

وتنتقل المخرجة إلى قضية حساسة وسؤال لم يحسمه القضاء بعد، وهو: هل كانت هناك مؤامرة من بعض الأطباء؟ من الصعب تعميم ذلك ولا حتى الوصول إلى نتيجة تؤكد أن المؤامرة شارك فيها بعضهم، ولكن الحقيقة هي أن من فقدوا أعينهم أكدوا أن مستشفى العيون كان يخلو من المتخصصين، وأن الأطباء الصغار الذين لا يملكون الخبرة الكافية للتعامل مع هذه الحالات الحرجة كانت لديهم التعليمات المباشرة بضرورة أن يوقع المريض إقرارا يفيد بموافقته على فقدان بصره لو لم تنجح العملية، والأبطال لم يملكوا خيارا آخر سوى التوقيع بالموافقة.

هل كان كبار مخصصي العيون مشغولين بتحقيق الأموال في عياداتهم الخاصة خارج المستشفى؟ هل بالصدفة وفي هذا التوقيت كانوا جميعا خارج نطاق الخدمة؟ كان من الممكن إنقاذ عيون البعض لو تمت الجراحة في التوقيت وبالأداء السليم، كان من المحتمل تقليل الخسائر بقدر المستطاع، ولكن يبدو أن المؤامرة كانت محكمة تماما.

لن يعترف أحد بأن هذا هو المطلوب.. من أعطى أوامره بالضرب؟ هل هو وزير الداخلية «العادلي» منفردا؟ وهل من الممكن أن نتصور أن هذا يتم بعيدا عن «مبارك» القائد الأعلى للشرطة؟! العين بالعين، فلقد أخذوا أعين الشباب ولم يثأر أحد لهم.. ربما كان هناك أمل أو بصيص أمل في أن تجرى عمليات ليستعيدوا نسبة ما من القدرة على الإبصار، وهناك أيضا في نهاية الأمر عمليات تجميل، الهدف الأدنى لها هو أنها تضمن للمصاب الاحتفاظ بالجانب الشكلي، حيث يتم تركيب عين صناعية تتحرك بنفس مقياس العين السليمة ولا يمكن أن تلاحظ أنها صناعية، وهي عملية مكلفة ماديا، وأقل ما يمكن أن نفعله هو أن نمكنهم من ذلك.

«اسمي مواطن مصري» رصد فني بتفهم وإبداع قدمته المخرجة السويسرية بعين تكشف إلى أي مدى أحب هؤلاء الوطن.. كنا في خلفية الفيلم التوثيقي نشاهد خريطة الثورة المصرية.. كانت أرض الواقع تشهد بأن صورة الوطن لا تزال تسكنهم حتى بعد أن أطفأوا نور أعينهم.

قدمت المخرجة رؤية مختلفة للثورة، صوبت الكاميرا لترى بالعيون المفقودة تفاصيل الثورة. صحيح أنها رؤية أجنبي، ولكن الثورة المصرية أسقطت الحواجز الجغرافية فأصبح الشأن المصري شأنا عالميا.. الشريط بقدر ما آثار الشجن في النفوس وأنت ترى شبابا في عز العطاء يفقد الإبصار تماما أو يفقد إحدى عينيه، بقدر ما نجح الفيلم في عبور تلك الحالة لنعيش مشاعر العزة مع هؤلاء الأبطال الذين منحونا الأمل في غد أرحب وأجمل.

كانت الثورة حاضرة طوال أحداث الفيلم، وكان أيضا الإحساس بأن هناك من تآمر على عيون الثوار حاضرا.. «اسمي مواطن مصري» هو هتاف صرخت به عيون الشرفاء التي فأقوها ولم يستطيعوا أن يكسروها!! رشح فيلم «اسمي مواطن مصري» لأكثر من جائزة، ورشح أيضا فيلم آخر باسم «الجمل» عن الموقعة الشهيرة التي حملت هذا العنوان يوم 2 فبراير 2011، كما شاهدنا فيلم «سيدة في الميدان» الذي تناول دور المرأة في الثورة، وفيلم «عام بعد الربيع العربي» من خلال الرؤية الهولندية التي تطل على الشارع العربي للمخرج عبد الله والي، وفيلم عن الصديقين الشيخ أمام وأحمد فؤاد نجم يقدم الفن الغنائي عندما يقاوم السلطة، وكان بالفيلم حضور لزمن عبد الناصر، إلا أن الفيلم الذي استحوذ على الاهتمام واستحق الذهبية هو «نصف ثورة»، عندما تتابع لقطاته على الشاشة فأنت تتابع بنفس القدر من الشغف كيف تم تحقيق الفيلم.. في اللقطات الأولى كانت الكاميرا تطل على ميدان التحرير، وبدأت العيون تحدق وتسأل ماذا يجري، وتأكدوا أنها ثورة.. ومع دقات الثورة على الباب كانوا هم والكاميرا في الميدان. أتحدث عن مجموعة من الأصدقاء مختلفي الجنسيات يجمعهم حب السينما وتعنيهم الثورة، لدى كل من منهم علاقة خاصة بمصر، لو لم تكن الهوية مصرية فإن الهوى مصري.

الكاميرا تلتقط كل شيء، إلا أنهم لم يكملوا الرحلة بعد أن بدأت الملاحقات الأمنية تضيق الخناق عليهم بحجة أنهم أجانب.. إنهم ممن أطلق عليهم نظام مبارك «حاملي الأجندات الأجنبية»، وكان الإعلام الرسمي والخاص أثناء الثورة يحرص على أن يلتقط أي أجنبي في ميدان التحرير لكي يعلن للناس أنها مؤامرة أجنبية لزعزعة الاستقرار في مصر.

فيلم «نصف ثورة» قدمه المخرجان عمر شرقاوي وكريم الحكيم، جذور كل منهما مختلطة ما بين مصر وفلسطين والدنمارك، ولكن فيلمهما مصري القضية والإحساس والهوى، حتى وإن كانت هوية الإنتاج دنماركية، كانوا ومعهم أصدقاؤهم المصريون في الميدان منذ 25 يناير وحتى 3 فبراير قدما من التحرير «نصف ثورة».. وثقا ثمانية أيام من أحداث الثورة، وكان عليهما بعد ذلك أن يشدا الرحال إلى الخارج قبل أن تطالهم قبضة الأمن.. كانت العيون تطل على الثورة، عين في الميدان وعين ترصد من شرفة في هذا البيت القديم الكائن في وسط المدينة ما يجري، وكانت هناك الأجهزة الأمنية تترصد لهما فلم يكتمل التوثيق، فجاء العنوان وكأنه النبوءة لما نعيشه الآن، إنها نصف ثورة يبحث عن نصفه الآخر! الفيلم كعمل فني هو بالتأكيد فيلم كامل، فهو يعبر بكل دقة وصدق عما عاشته مصر في الأيام الأولى، حيث كان الرهان على من هو صاحب النفس الأطول.. الأجهزة الأمنية تريد أن تستنفد طاقة البشر، ولهذا تطيل من أمد مبارك على الكرسي فتطلق البلطجية إلى الميدان.. كانت الكاميرا لا تنقل فقط ردود فعل المتظاهرين، ولكنها استطاعت أن تتسلل أيضا إلى الجانب الآخر وترصد القناصة وهم يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين.. كانت هناك كاميرا تلتقط، وتسجيل صوتي يوثق، وقبل كل ذلك إحساس يتحرك بتلقائية في التعبير، لنرى أن الثورة المصرية لا تعني فقط مصر ولكن ترصدها كل العيون في أكثر من دولة في العالم من خلال لقاءات تنضح بالصدق!! غادر الفريق السينمائي الذي قدم الفيلم مضطرا الأراضي المصرية، بعد أن أوقف الأمن وقتها صلاحية تأشيرة وجودهم على الأراضي المصرية، ولكن مصر لم تغادرهم، وهكذا جاءت الشاشة وهي تعلن على «التترات» أن قبضة المجلس العسكري هي التي صارت الآن بديلا عن قبضة مبارك!! السينما لا يمكن أن تعزلها عن الرؤية السياسية، خصوصا عندما تعيش الأوطان في مرحلة حساسة، والمهرجانات لا تقام بمعزل عما يجري في الحياة، وهكذا مرت أيام مهرجان «الجزيرة» في دورته الثامنة وهي تمزج ما بين روح ثورات الربيع، ونضال الفلسطينيين ضد الممارسات الإسرائيلية، وحضور لافت للرئيس التونسي المنصف المرزوقي، الذي ألقى محاضرة أثناء المهرجان تتناول حال الأوطان العربية بعد الثورات، وشاهدنا أيضا طيف جمال عبد الناصر يطل علينا في عدد من أفلام المهرجان.