مقاطعة الفيلم الأميركي في المهرجانات العربية ليست الحل

تداعيات الفيلم المسيء بين السينمائيين

TT

بينما تدق المهرجانات العربية السينمائية الكبرى الأبواب، حيث تفتتح خلال الأسابيع القادمة مهرجانات القاهرة وقرطاج وأبوظبي والدوحة ودبي، نجد أن هناك من يطالب برفع شعار المقاطعة ضد الفيلم الأميركي، وكأن الفيلم المسيء إنتاج الدولة الأميركية، مثلما حدث قبل نحو 7 سنوات عندما رُفع شعار مقاطعة كل ما هو دنماركي احتجاجا على الرسوم المسيئة للرسول (عليه الصلاة والسلام) التي نشرت في الدنمارك، حتى ذكرى الكاتب الشهير الدنماركي «هنريك ابسن» الذي حلت ذكري رحيله المئوية في التوقيت نفسه طالب البعض بإلغاء الاحتفال بها.

وبالتأكيد ليس هذا هو الحل، فالغضب بالطبع مشروع، لكن توجيه هذه الطاقة بأسلوب إيجابي هو ما ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه.

بدأ موقع «يوتيوب» في الاستجابة للغضب في الشارع الإسلامي، وأخذ في تنفيذ تقنية لحذف الفيلم من التداول في كل من مصر وليبيا، كما أن دولة الإمارات العربية المتحدة ألغت الرابط الإلكتروني، وفي الهند وباكستان وإندونيسيا منع الموقع، في المقابل لم يكتف أحد الأحزاب المتطرفة في ألمانيا بترويج الفيلم على الإنترنت، لكنه يستعد لعرضه تجاريا في دور السينما خلال الأيام القادمة.

يجب أن ندرك الحقيقة ونتعامل معها، وهي أن حذف الفيلم مؤقتا من التداول لا يعني إصدار حكم إعدام أبدي على ما تم تصويره، لكن ببساطة من الممكن أن تراه مجددا في العديد من المواقع، ولهذا يبقى الأهم وهو كيف نواجه ما يحدث في ميديا الإعلام، وكيف نحيلها من سلاح يوجه ضدنا إلى سلاح يقف معنا؟! على مدى سنوات متلاحقة، ومع رواج الإنترنت عالميا، ونحن نتابع رسوما مسيئة للرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) تنشر في الدنمارك والنرويج والسويد وألمانيا وهولندا وأميركا وغيرها، بل هناك من هدد بحرق المصحف الشريف، وهناك من حرقه بالفعل، ونجد في المقابل هناك من يهدد بحرق الإنجيل، وهناك من يحرقه، وكل هذه الأفعال لا أرى سوى أنها تبديد للطاقة تتناقض مع الدين الإسلامي الذي يحرم قتل النفس وحرق المقدسات.

العالم الإسلامي يريد أن تعتذر هذه الدول رسميا عن الإساءة للإسلام ولرسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، لكننا ننسى أن هذه الأفلام ليست من إنتاج دول، كما أنها في الحقيقة ليست أفلاما كما اتضح من الفيلم الأخير الذي أثار مساحة غضب لم نشهدها من قبل، لكنها أقرب إلى مقدمة رديئة (14 دقيقة) لفيلم لم يتم استكماله، وعدد ممن شاركوا فيه أعلنوا أنهم ضللوا ولم يدركوا بالضبط ما الذي يقدمه الفيلم. لا نستطيع بالطبع أن نبرئ أحدا أو ندين أحدا، فهل كانوا مضللين أم مشاركين؟.. هل هو الخوف من الغضب العارم في العالم الإسلامي هو الذي دفعهم إلى التأكيد على أنهم مضللون؟ الحقيقة غائبة لكن علينا أن نتعامل بواقعية.

الغرب متربص بالإسلام ويعتبره العدو الحقيقي بعد سقوط الشيوعية في العالم كله، فكان لا بد من البحث عن عدو فلم يجدوه إلا في الإسلام.. قد تعثر على شيء من الصحة في تلك الإجابة لكنها ليست هي كل الأسباب، ولا هي بالتأكيد تعبر عن كل الحقيقة. لماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا وقبل أن نرى القشة التي في عيون الآخرين نرى الخشبة التي في عيوننا.. ربما كان صحيحا بنسبة ما أن هناك من يترصد للعرب أو للمسلمين، لكن الجزء الآخر من الحقيقة هو أن هناك لبسا لدى الغرب بشأن حقيقة الإسلام، وأن عمليات الإرهاب التي تلتصق خطأ بالإسلام في أوروبا وأميركا وأفغانستان وباكستان والفلبين وإندونيسيا والهند وكشمير وغيرها تقدم صورا مزعجة جدا عن الإسلام.

في دراسة حديثة، مثلا، اتضح أن أكثر من 60 في المائة من الأميركيين لديهم صورة مغلوطة عن الإسلام. الرسالة التي تصل للآخر هي أن الإسلام دين عنيف.. فالصورة الذهنية التي ترسخت لدى الآخر عن شخصية بعض المسلمين أنه «أسامة بن لادن» أو «أيمن الظواهري» أو «عمر عبد الرحمن»، أو الذين فجروا البرجين في أميركا أو أحرقوا المترو في بريطانيا أو إسبانيا.

ما الذي فعلته الأموال العربية في الإعلام وهذه «الميديا» الجبارة التي تتيح لنا أن نقدم أنفسنا للعالم؟! لو راجعت القنوات الفضائية التي أنشئت في السنوات العشر الأخيرة، على كثرتها، سوف تجد صورة الإسلام المتشدد هي التي يتم تداولها فيها.

أخرج مصطفى العقاد فيلم «الرسالة» بنسختين، عربية بطولة «عبد الله غيث» وإنجليزية بطولة «أنتوني كوين»، قبل 32 عاما، وظل من بعدها يحلم بأن يخرج فيلمه «صلاح الدين الأيوبي»، ولم تتحمس الحكومات العربية ولا الأثرياء العرب لإنتاج هذا الفيلم رغم أن اسم مصطفى العقاد وحده كان يكفي لكي تفتح أمامه كل الأبواب. والغريب أن يرحل مصطفى العقاد على أثر عملية انتحارية قام بها إرهابيون في الأردن في فندق يحمل اسم القدس.

على الجانب الآخر نكتشف أن مصر مثلا لم تسمح بعرض فيلم «الرسالة» على شاشة التلفزيون إلا منذ أربعة أعوام فقط.. بسبب ظهور شخصية «حمزة بن عم المطلب» عم الرسول التي اعترض الأزهر الشريف على تجسيدها. ولا شك أن هذا الفيلم قدم وجها صحيحا وحقيقيا للإسلام، إلا أننا منذ ذلك الحين لم نتبعه بفيلم عالمي آخر.

كما أننا ننتظر رؤية أكثر رحابة تتيح لنا تقديم أعمال فنية إسلامية للعالم كله عبر الشاشتين السينمائية والتلفزيونية.. فقد اعترض الأزهر الشريف، ولا يزال، على مسلسل «عمر» الذي عرض في شهر رمضان الماضي وشاهده أغلب المسلمين في أنحاء المعمورة، حيث ترجم المسلسل لأكثر من لغة، وكان من الضروري أن يرى العالم أجمع عدالة سيدنا «عمر» (رضي الله عنه)، وأن نشاهد خلفاء الله الراشدين سيدنا أبو بكر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) لأول مرة على الشاشة.. إن هذه هي الأسلحة الناعمة التي نملكها في أيدينا.. وعلى المؤسسات الدينية مثل الأزهر الشريف أن تتحلى بالمرونة الكافية التي تتواءم مع مستجدات العصر لكي نصل بالأفلام والمسلسلات الإسلامية إلى العالم.

أتمنى أن تتسع رؤيتنا إلى العالم، لأن هناك من لديه رؤية من المخرجين العالميين تصب لصالح إسلامنا لكنها تحتاج منا أن نقرأ زاوية رؤيته.. عندما قدم «ريدلي سكوت» المخرج الأميركي الشهير فيلمه «مملكة الجنة» قبل 7 سنوات، وكان يتبنى رؤية منصفة للإسلام أثناء الحروب الصليبية على القدس، كان المخرج حريصا من خلال شخصية «صلاح الدين الأيوبي» التي أداها الممثل السوري «غسان مسعود» على أن يشاهد العالم الوجه المتسامح للإسلام، لكننا لم ندرك أهمية الفيلم لنا، وتجاوزنا تلك النظرة التي تتسم بالصدق التاريخي لشخصية «صلاح الدين الأيوبي» وللإسلام، حيث إن الأيوبي كان محافظا على عهوده ولا يبدأ العدوان أبدا لكنه يرد العدوان، وكان إنسانا نبيلا يرسل إلى عدوه طبيبه الخاص لكي يعالجه من مرض الجذام..

أقول تجاوزنا كل ذلك وتساءلنا: كيف يرى المخرج أن القدس هي «مملكة الجنة» وأنها عاصمة لكل الأديان والأعراق والألوان ولم يقل إنها عاصمة لفلسطين فقط؟!.. لم نتفق سياسيا مع المخرج، وهذا من حقنا، لكننا لم ندرك الوجه الآخر للصورة، والأهم هو تقديم صورة منصفة للإسلام تأتي من خلال مخرج أميركي تحكمه معايير وأفكار وزاوية رؤية وقناعات فكرية مختلفة عنا.. من حقنا أن نتحفظ سياسيا على الفيلم، لكننا في الوقت نفسه لا ننسى أن من حق الفيلم علينا أن نشيد برسالة نحن أحوج ما نكون إليها، وهو يعلن على الشريط السينمائي أن الإسلام دين لا يرفع فيه سلاح إلا في مواجهة سلاح، وهو دين يعترف بالديانات الأخرى وبحق أبنائها في إقامة العبادات في كنائسهم ومعابدهم.

لكننا بدلا من أن نسعى لتقديم صورة صحيحة للإسلام نطالب بمقاطعة كل ما هو أميركي وسويدي ودنماركي.. لقد بدأ هذا الصوت يعلو بين بعض المثقفين لمنع الأفلام الأجنبية من المشاركة في مهرجانات السينما العربية، وهكذا ندور في دائرة مفرغة.. الإسلام ورسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) يهاجمان ولا نعرف كيف نحمي ديننا ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم).

صورة المسلم والعربي تزداد من حولنا قبحا وتشوها، وبعضنا لا يزال يمزق بعضا!! نعم نقدر غضب المسلمين في العديد من الدول العربية، مثل تونس وليبيا والسودان ومصر ولبنان، وغيرها، لكننا لا نزال نبدد طاقتنا، فلن تُصدر تشريعات تمنع فيها الدول الأوروبية مثل هذه الأفلام، ولو تصورنا جدلا أنها منعت من دور العرض فسوف تجدها على الإنترنت متاحة للجميع.. قرارات المنع ليست أبدية، وسوف نرى أفلاما أخرى، وعلينا أن نبدأ في المواجهة الصحيحة.

لدينا الإمكانيات الاقتصادية والبشرية.. فقط يتبقى أن نحدد الهدف ونشرع في تقديم أعمال فنية وبرامج بمختلف لغات العالم.

زمن المنع والمقاطعة تغير، وعلينا أن ندخل بكل قوتنا لنشارك في معركتنا الثقافية عبر «الميديا»!!