هل السينما مسؤولة عن العنف والجريمة؟

الممثلون ينفون.. والمجرمون أيضا

بروس ويليس (يسارا) كما في «يوم طيب للموت» (سلسلة داي هارد)
TT

السؤال المتكرر الذي يواجهه العديد من نجوم السينما الأميركية هذه الأيام هو إذا ما كانوا يرون علاقة بين مشاهد العنف والقتل في السينما، وقيام العنف والقتل في الحياة اليومية خارج جدران الصالة السينمائية. السؤال طُرح على ثلاثة ممثلين قاموا، مؤخرا، ببطولة ثلاثة أفلام بُنيت جميعا على قدر كبير من العنف والعديد من الضحايا بمن فيهم غير الأبرياء.

هؤلاء الممثلون هم سيلفستر ستالون الذي لعب بطولة «رصاصة في الرأس» لوولتر هيل، وآرنولد شوارتزنيغر الذي قاد فيلم «الوقفة الأخيرة» لجي - وون كيم وبروس، ويليس الذي اضطلع ببطولة «يوم طيب للموت» أو «Die Hard 5» كما عرف في عدد من عروضه الدولية. والثلاثة اشتركوا في بطولة فيلم «المستهلكون 2» الذي لم يقل عنفا متحدثا عن فريق يرى الحل في الانتقام والقتل المضاد.

جواب كل من هؤلاء عن السؤال هو بالنفي القاطع. بداية من ستالون الذي قال: «لا أرى أي علاقة بين ما نقوم به على الشاشة وما يحدث في الشارع. السينما ليست مسؤولة عن أشخاص يرتكبون الجريمة في الشوارع».

آرنولد شوارتزنيغر قال بصوته العالي: «أبدا. ليست هناك أي علاقة بين العنف على الشاشة والعنف في الواقع. العنف في الواقع له مسببات اجتماعية. العنف على الشاشة تنفيس. في الحقيقة هو الذي يلعب الدور الأول في الحد من العنف اليومي».

ومثلهما نفى بروس ويليس حين سئل مؤخرا وجود أي رابط، وتحدى محدثه قائلا: «أعطني مثالا واحدا على أن شخصا خرج من فيلم ليرتكب جريمة قتل. هذا لم يحدث ولا يحدث. وأنت لا تملك دليلا واحدا على ما تقول».

لهؤلاء جميعا، كما لسواهم من الممثلين الذين يؤدون حاليا أفلاما تتساقط فيها الضحايا وتطاير فيها الرؤوس أو تصطدم فيها الحافلات وتتهاوى خلالها المباني ساحقة ضحايا أبرياء، مصلحة في نفي العلاقة: كل منهم بنى شهرته ونجوميته وكذلك ثروته الكبيرة على أدوار البطولة الفردية في أفلام تتوجه إلى الجمهور السائد ببطل عادة وحيد يقرر ممارسة واجبه الوطني كما يراه، ويستمر الفيلم في القول، وهو ما علينا نحن المشاهدين أن نراه ونوافق عليه.

مثل جيمس بوند لكن من دون التشبه به وبنوعية نشاطاته بالضرورة، لدى كل واحد من هؤلاء رخصة للقتل إما ممنوحة له من قِبل المؤسسة أو منحها هو لنفسه رغما عنها وسيثبت الفيلم في نهايته أنه كان على حق.

* حس شعري وجمالي

* لكن هل الرابط مفقود بالفعل بين ما يُعرض على الشاشة وما يقع في الحياة اليومية؟

هل «غولال» و«غاجيني» و«دوشمان» و«راختا شاريترا» وكلها أفلام هندية حديثة هي المسؤولة عن تفشي ظاهرة الاغتصاب الجماعي التي تتناقلها الصحف اليوم وتثير قلق المسؤولين الهنود من نتائج سلبية سياسية واقتصادية؟

حين قام سام باكنباه سنة 1968 بتحقيق فيلم «الزمرة المتوحشة» حول مجموعة من اليائسين الراغبين في إتمام عملية سطو مسلح أخيرة قبل الإفلات من القانون والتوجه إلى المكسيك للعيش برغد وحرية، استخدم مشهدي البداية والنهاية حلقتي وصل للتنديد بالعنف عبر العنف نفسه. الرصاص يتطاير، في كلا المشهدين، لكي ينجلي عن ضحايا؛ مسلحين وأبرياء. تلتقط الكاميرا تساقطهم من أسطح المنازل أو على الأرض بـ«سلوموشن» مدروس للضحية أول إصابته. تقطع إلى مشهد آخر ثم تعود إلى الضحية وهو في منتصف السقطة، ثم تعود إليه مرة ثالثة وهو يرتطم بالأرض. هناك حس شعري وجمالي بالموت. احتفاء باللحظات الفاصلة بينه وبين الحياة. الجمهور لم يكن مستعدا لذلك. فالموت في الأفلام السابقة كان إما متواريا أو مخففا أو فرديا (إلا في أفلام العصابات القليلة). وعادة ما يتم بطلق ناري واحد يسقط بعده المجرم (البطل قلما يموت) سريعا.

في فيلم باكنباه أريد للحظة أن تمتط.. أن تحتل وقتا وأن تجسد حالة، لكن في هذا العنف كان الرادع موجودا. ليس هناك ما يمكن نقله إلى الحياة الحاضرة. تشاهد وتقبل أو لا تقبل ثم تخرج وبالكما زال في الفيلم. لست تحت تأثير عنفه؛ بل تحت تأثير الوجهة التي اختارها المخرج لتقديم ذلك العنف.

في العام التالي، رفض المخرج آرثر بن أن يقطع بعيدا عن جسدي وورن بيتي وفاي داناواي وهما يتعرضان لوابل من الرصاص المنهمر من عدة رشاشات ومسدسات في فيلمه البوليسي «بوني وكلايد». كانا في السيارة البيضاء في الحقل وتوقفا تبعا لخطة للبوليس الفيدرالي وقبل أن يدركا ما الذي يحدث، انهمر الرصاص عليهما ممزقا جسديهما بلا توقف حتى النفس الأخير. بعد الفيلم لم تسجل دوائر البوليس حوادث في الحياة نسخت ذلك المشهد، أو أيا من المشاهد قبله، ومارسته.

إنه حقيقة واقعة أن العنف متشرب اجتماعيا عبر مسببات غير مرتبطة بما يقع على الشاشة.. فالسينما الحربية لم تتسبب في الحروب الأهلية أو في أي حرب، وسينما الرعب لا تدفع بالمشاهدين إلى ارتكاب الجرائم، وليس من فيلم تحدث عن أكل لحوم البشر كان وراء هؤلاء الذين ارتكبوا جرائم مماثلة.. لا الكوري الذي روع باريس إيساي ساغاوا ولا الأوكراني آندريه شيكاتيلو الذي فتك بأرواح خمسين ضحية، ولا الأميركي جيفري دامر تأثر بفيلم عنيف وانطلق منه ليمارس فعلته.. كل من هؤلاء، وهم بعض من أعتى المجرمين في التاريخ، تشرب عنفه من مواضع بيئية ونفسية وتربوية لا علاقة لها بأفلام الرعب والجريمة.

على الرغم من ذلك كله، فإن الفيلم المبني على العنف فعل لا قيمة له.. ذلك الذي يسوق العنف في تشكيل فني أو أسلوبي ولغاية تتجاوز العنف لرصد حالات فردية أو اجتماعية أو سياسية، يبقى بعيدا عن الإيعاز بالجريمة. ما هو ثابت أن الأفراد الضعفاء ينحتون من الموسيقى والكتب والسينما ثقافة شعبية مشاكلة لأفعالهم الناشزة. نعم ليس هناك من فيلم يتسبب في جريمة مباشرة، لكن هناك ثقافة تستطيع أن تثري الجريمة وأخرى تحد منها.

* عندما كف باكنباه عن العنف مرة

* في حياته أخرج الراحل سام بكنباه (1925 - 1984) مجموعة من أفلام الوسترن والحرب والبوليسي العنيفة مما جعله مصدر شكوى الإعلام الأميركي أكثر من مرة. في عام 1970 (ومباشرة بعد «الزمرة المتوحشة» الذي لا يمكن إحصاء قتلاه) قرر تحقيق فيلم وسترن خال من العنف. لكن الفيلم سقط تجاريا، مما جعله يردد في مقابلاته: «عندما استجبت لنداء المنتقدين وحققت فيلما بلا عنف، لم يقبل عليه أحد»!