ستانلي كوبريك سيد لعبة المألوف - المختلف

أفلامه ما زالت مطروحة إلى اليوم

المخرج ستانلي كوبريك
TT

منذ وفاة المخرج ستانلي كوبريك عن سبعين سنة في عام 1999 وأفلامه تعاود الإطلال على شاشات السينما حول العالم. هذا أكثر وقعا وحدوثا مما كان الحال عليه إثر وفاة مخرجين كبار آخرين من مستواه مثل إنغمار برغمن ومايكل أنغلو أنطونيوني وأكيرا كوروساوا. طبعا التظاهرات المختلفة حول العالم وأسطوانات العرض المنزلي كثيرا ما تأتي على منح هؤلاء المبدعين ما يستحقونه من تخليد لدى جيلين واحد قديم كان اعتاد على مشاهدة أعمال هؤلاء وسواهم من الثمانينات وما قبل، وآخر جديد لم يألفهم على الشاشات الكبيرة من الثمانينات وما بعد.

أفلام كوبريك قلما غادرت صالات السينما في مدن أميركية رئيسة مثل نيويورك وشيكاغو وبوسطن لوس أنجليس أو كندية مثل تورونتو ومونتريال، أو في عواصم أوروبية مثل فيينا وباريس ولندن التي تعرض له حاليا فيلمين يتحديان تقلّبات الأهواء والمتغيرات هما «كلوكوورك أورانج» الذي أنجزه سنة 1971 و«سترة معدنية واقية» في عام 1987.

فيلمان مهمان لكن كذلك حال كل فيلم آخر أنجزه كوبريك باستثناء أول عملين له وهما «خوف ورغبة» (1953) و«قبلة القاتل» (1955). الأول ليس مهما لأنه ليس فيلما جيّدا ولو أن بعض منابع أفكار كوبريك حول الحروب وموقف الإنسان منها، أخلاقيا ووجوديا، متأصل فيه. كوبريك نفسه آثر اعتبار فيلمه الأول هذا عملا غير ذي قيمة. وهو دار حول أربعة مجنّدين خلال الحرب العالمية الثانية يخططون للعودة إلى فرقتهم بعدما وجدوا أنفسهم معزولين وراء خطوط العدو. تعترض الرحلة أزمة ناتجة عن القبض على فتاة من سكان المنطقة، ومحاولة أحدهم اغتصابها ثم تأثير الأجواء والظروف على شخصيات الفيلم. اللبنة ذاتها التي ألفت لاحقا مضامين أفلام كوبريك المعادية للحروب (خصوصا «سترة معدنية كاملة» - 1987) والساعية لإظهار تأثير الحرب على الذات البشرية، لكن المشكلة بالطبع هي عدم تجسيد ذلك على نحو واضح في دوافعه وجيّد في معالجته الظروف الصعبة لشخصياته.

بعده، جاء «قبلة القاتل»، فيلم تشويقي أفضل شأنا من «خوف ورغبة» على صعيدي التنفيذ والسياق الروائي وانضباطه تحت قبضة أجواء وأسلوب مناسبين. حكاية ملاكم (فرانك سيلفيرا) يود إنقاذ جارته (إيرين كان) من الرجل الذي يعنفها لكن حتى يفعل ذلك عليه مواجهة الشرير ورجاله.

الفيلم الثالث «القتل» (1956) هو أول معبّر حقيقي عن سينما كوبريك التي نعرفها: عصابة تم تكوينها من داخل وخارج مؤسسة لسباق الخيل يقودها خريج من السجن (سترلينغ هايدن) الذي يريد ضربة واحدة وأخيرة تمنحه مستقبلا رغيدا. لكن كل العوامل المضادة تدخل على الخط، من ضعف أحد أعضاء العصابة (أليشا كوك) أمام زوجته المخادعة (ماري ونسدور) التي تبوح بالخطّة لعشيقها ما ينتج عنه معركة بين عصابتين، إلى نهاية الفيلم حيث تطير الغلة المسروقة من ميدان السباق في هواء مدرج الطائرة ذات المراوح التي تستعد للإقلاع وبذلك يتبخر حلم هو غير مشروع قانونا لكنه لا يزال نتيجة عوامل تحفل بالمواقف الإنسانية الداعية.

سيكون هذا آخر فيلم بوليسي لكوبريك. بعده ستجذبه أفلام حرب وتاريخ وخيال علمي كما فيلم رعب واحد. في عام 1957 قام بتحقيق «ممرات المجد» حيث ساق اتهامه إلى صف المسؤولين العسكريين الفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى. بناء على قوّة هذا الفيلم رشحه الممثل كيرك دوغلاس (الذي كان من بين ممثلي «ممرات المجد» الرئيسين) لتحقيق «سبارتاكوس» (1960) وأصرّ عليه. «لوليتا» (1962) كان دراما عاطفية عن رواية بالعنوان نفسه وضعها فلاديمير نابوكوف (وقام ببطولتها جيمس ماسون وابنة السادسة والستين سنة اليوم التي انسحبت من السينما بعد أربعة عشر فيلما فقط سو ليون).

لم يحضّر أحد من متابعي كوبريك آنذاك نفسه لنقلة كوبريك التالية: كوميديا ساخرة من الحرب ومنتقدة لانتشار الرؤوس النووية وردت في صميم الحرب الباردة بين الروس والأميركيين هو «دكتور سترانجلف أو: كيف تعلمت التوقف عن القلق وحب القنبلة» وصورة الممثل المساند سلْيم بيكنز، المشهور بأدواره في أفلام الوسترن، وهو يركب صاروخا نوويا أفلت من الطائرة المقلة ليضرب موسكو ما زالت ماثلة لجانب قيام بيتر سلرز بتمثيل أكثر من دور منفصل في هذا الفيلم.

الفيلم الآخر عملاق بين كل أفلام كوبريك وهو «2001: أوديسا الفضاء» (1968) الذي شبع عرضا وتحليلا ولا يزال يستحق المزيد متناولا تاريخ الحياة كما يراها المخرج و«تاريخ المستقبل» في آن معا. «كلوكوورك أورانج» أتى بعد «أوديسا الفضاء» ضمن منظومة مستقبلية أخرى ليقدم خيالا فانتازيا مختلفا في موضوعه وحكايته. البريطاني مالكولم ماكدووَل قائد زمرة من الشبّان في مستقبل قريب تمارس كل رذيلة وجريمة ممكنة إلى أن يقع في قبضة المسؤولين ويتحوّل إلى فأر اختبار. لا يستطيع هذا الفيلم اليوم إلا وأن يبدو كانزا لعناصر اختلافه وما أحدثه من إثارة وقرارات منع. في المقابل، يبدو شاخ قليلا عما كان عليه. أفضل منه في هذا المجال (وأقل منه شهرة) «إذا…» فيلم آخر من بطولة مالكولم ماكدووَل أخرجه في الفترة ذاتها لندساي أندرسن.

«سترة معدنية واقية» (بعد فيلمين آخرين هما «باري ليندون» الساحر و«المبرق» المخيف) عودة إلى الحرب (الفيتنامية هذه المرّة) وكيف تبني المؤسسة العسكرية رجالها قبل أن تبعثهم غير مؤهلين إنسانيا لخوض غمار القتال.

كوبريك كان سيّد لعبته المفضلة: احتواء المشاهد عبر نقله لعالم غير مألوف ضمن توليفة معهودة. هذا ما صنع من «المبرق» The Shining سطوته: حكاية تنتمي إلى نوع الرعب استوحاها من كتابة لستيفن كينغ ليستخرج منها رعبا من نوع آخر غير مألوف بين سينما النوع.

* أفلام غير محققة

* كان في نية كوبريك تحقيق فيلم خيالي علمي مستقبلي عنوانه «ذكاء اصطناعي» لكنه تخلّى عن الفكرة لستيفن سبيلبرغ الذي صنع منها فيلما جيّدا سنة 2001. حين حقق سبيلبرغ «قائمة شيندلر» نُقل عن كوبريك عدم إعجابه بالفيلم وهو كان لديه مشروع مؤجل حول محنة اليهود في الحرب لكنه لم يقدم عليه. كذلك كان يحلم بتحقيق فيلمه عن «نابليون» ولنا أن نتخيل اختلاف نابليون تحت إدارة كوبريك عن أي نابليون ظهر في السينما حتى اليوم.