أفلام سورية تحكي المخفي وترمز إلى المقصود

من نبيل المالح إلى محمد ملص وآخرين

لقطة من «سلّم إلى دمشق»
TT

يتوجه المخرج السوري محمد ملص إلى مهرجان تورونتو السينمائي الذي سينطلق في الخامس من سبتمبر (أيلول) المقبل ليقدّم فيه فيلمه الجديد «سلم إلى دمشق» الذي صوّره مؤخرا وسط الأحداث الدموية التي تمر بها سوريا.

يا ليت المهرجان الكندي يعرض أفلام ملص السابقة كما فيلمه الجديد لكان الجمهور العالمي تعرّف على لغة فنية رائقة يتعامل فيها المخرج مع كل أفلامه ويسرد بها تلك الأحداث النابعة من الواقع الذي عاشه أو لاحظه أو تعامل معه في زمن أو آخر. وإذا كان «أحلام المدينة» و«الليل» نقلا نبض الشخصيات والبيئة الزمنية في الستينات، فإن «سلم إلى دمشق» معني بنقل ذلك النبض في يومنا هذا.

ملص، المعارض سياسيا للنظام، يبدأ فيلمه بتحية لرفيق دربه عمر أميرالاي، المخرج الذي رحل في مطلع هذه الأزمة، وينهيه بواحد من شخصياته المتعددة وهو يصعد إلى سطح بيته ويرفع صوته صارخا: «الحرية»، بينهما تعليق على دوي المدافع وأزيز الرصاص. فيلم يتشرّب من الواقع الدامي بينما يحكي الآمال المعلقة وتلك المؤجلة لجيل حالي يستحق مستقبلا أفضل. والموت في مطلع الفيلم ثم الصعود على السلّم إلى السطح في نهايته يتبدّى كصرخة تطالب بالحياة. تلك الحياة التي لا يمكن هضمها وتذوّقها إلا بذلك القدر من الحرية التي يتيح لكل الناس أن يكونوا متساوين تحت قانون عادل وأن يمارسوا إبداعاتهم ويتحدّثون بصوت عال ومطمئن عوض الخوف من العيون الراصدة والتقارير المهموسة.

هذا ما يحيلنا إلى فيلم سابق قام به مخرج سوري آخر معروف وجدير بالاحترام هو نبيل المالح. الفيلم هو «الكومبارس» الذي حققه سنة 1993 وما زال آخر أعماله الروائية الطويلة. فيه شاب وفتاة (بسام كوسا وسمر سامي) يريدان الاختلاء في شقة صديق له بعيدا عن الأعين. ليس لدى أحدهما فكرة محددة عما سيقوم أو لن يقوم به. لكن هذه الخلوة لا يمكن أن تقع نظرا لأن قوى الدهم المتمثلة بأجهزة الأمن تقطعها. في البداية هناك من يسأل عن الجار في الباب المقابل. من هو؟ ما خصاله؟ ماذا يفعل؟، ثم - وبعد حين - تتم مداهمة الشقة المجاورة واعتقال المشتبه به (الدلالة الوحيدة هنا هي الريب في أنه مثقف معارض أو ناقد)، ولاحقا ما يكاد الظن يقود رجل المخابرات للتدخل في خصوصيات الشاب والفتاة. صحيح أنه يرحل وهو ما زال يرسم على وجهه علامة استفهام كبيرة، إلا أن المخرج توصل بطلاقة إلى الحديث عن ذلك الجو المهيمن الذي يخشاه الفرد الواحد. عن الأمن الذي يتسرّب مثل الماء النازف من سقف منتش.

الأول والأخير السقف الذي ينزف ماء نتيجة استعارة من فيلم مهجور اسمه «تحت السقف» أخرجه نضال الدبس سنة 2005 ومع أن الموضوع هو عاطفي، فإن الرمزية التي تشير إليها المشاهد المتوالية لسقف ينقط ماء ومحاولة ساكني الغرفة معالجة الوضع لا تغيب. ها هو الماء يتجمع والحل الوحيد المتاح لدى بطل الفيلم هو رمي المنشفة الكبيرة إلى أعلى لكي تضرب السقف وتمتص بعض مائه. بتكرار المشهد يدرك المشاهد أن الغاية هي الترميز إلى وضع لا يمكن إصلاحه بهذه الوسيلة. المطلوب تغيير السقف وليس المنشفة.

هذا الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التي ربما سمحت بإنتاجه على أساس فهم آخر لذلك الرمز أو ربما لأنها كانت تتيح هامشا من حريّة التعبير لا يمكن نكرانه. ها هي تموّل في عام 2001 فيلم أسامة محمد الروائي الطويل الأول «صندوق الدنيا» الذي اشترك سنة 2002 بمهرجان «كان» السينمائي كأول فيلم سوري يشترك في نطاق العروض الرسمية لذلك المهرجان.. للأسف لا يزال الأخير أيضا.

الفيلم يتحدّث عن شخصيات تعيش في غرف مسحوقة تحت ركامات الحياة. تعاني من الكبت والحرمان والقهر الذي يمارسه رب العائلة على من هم دون ذلك وفي ممارسته تلك يقمع الحريّة الشخصية ويسيّر الحياة وفق منهجه. هنا من السهل ربط الحكاية وشخصياتها بالواقع المعيش والفيلم لم يكن من تلك ستقوم المؤسسة بعد ذلك بتدويله أو تداوله والمخرج، الذي ظهر ممثلا في بعض أعمال زميله عبد اللطيف عبد الحميد وشارك في كتابة سيناريوهات له ولآخرين، لم يحقق فيلما آخر حتى اليوم.

مبادرات أخرى إنه في تلك الفترة (سنة 2004 تحديدا) قام المخرج الراحل عمر أميرلاي بتحقيق فيلمه التسجيلي الرائع «الطوفان» الذي موّلته محطة ARTE الفرنسية. فيه أقدم المخرج السوري، الذي توفّي قبل عامين معارضا، على خطوة سياسية وفنية كبيرة شكّلت منعطفا في حياته الزاخرة بالأعمال الجيّدة. موضوعه هنا عن البحيرة التي أنشئت قبل نحو 35 سنة من تحقيق ذلك الفيلم، والتي كان المخرج صنع عنها فيلم «سد الفرات» بعد نحو عامين من إنشائها وما آل إليه وضع الناس البيئي والاجتماعي في تلك المنطقة. الماء الفائض ليس المشكلة بل نظم التعليم والتوجه والممارسات الإدارية التي تحجر على الناس صغارا وكبارا. البحيرة ذاتها غيّرت المعالم الطبيعية للمنطقة، لكنها لم تغيّر وضع الناس إلا بالنسبة للبعض الذي ساد، تبعا لعلاقاته بالحزب والدولة. ذهب المخرج إلى أقصى ما يستطيع الذهاب إليه ومُنع الفيلم وقضى أميرالاي بعض الوقت في السجن وفرضت عليه الإقامة داخل البلاد حتى وفاته.

إثر انطلاق الأحداث الرهيبة التي ما زالت واقعة، انطلقت مبادرات سينمائية لم يصل أحدها، باستثناء فرضي لفيلم محمد ملص الجديد، لتكوين صرح متين. أعمال هالة العبد الله وعمّار البيك إما أنها جيّدة التشكيل وضحلة المضمون أو أنها لا تقول الكثير لا حول الثورة السورية ولا حول الوضع الذي دعا إليها.

العملان اللذان يقتربان من التعبير عن الأزمة الفردية وسط العاصفة ومسبباتها هما «حكايات حقيقية عن الحب والحياة والموت وأحيانا الثورة» لنضال حسن و«مشوار» لميار الرومي (الأخير هو «كومبارس» آخر لكن أحداثه تنطلق بعيدا خارج الحدود).

* المؤسسة لها وعليها

* على الرغم من مواقفها التقليدية إداريا وسياسيا، فإن المؤسسة العامة للسينما قامت بإنتاج عشرات الأفلام التي لولاها لما كانت هناك سينما سورية، أو سينما سورية جادّة على الأقل. من نبيل المالح (قبل توقفه عن التعامل معها) إلى محمد ملص (المصير ذاته) ومن سمير ذكرى وعبد اللطيف عبد الحميد وواحة الراهب وريمون بطرس وغسّان شميط، لعبت دورا تأسيسيا مهمّا لكنها بقيت محدودة التأثير في المحيط العربي (ناهيك عالميا). أمر يعود إلى الرقابة التي تتحكّم في أعمالها.