المحدقون في الحياة: تيرنس مالك وأندريه تاركوفسكي وآخرون

سينما ترصد الإنسان والطبيعة

جيسيكا شستين في «شجرة الحياة»
TT

الفيلم الجديد «أليست هذه الجثث ملائكية» لديفيد لاوري، هو أول فيلم يقصد أن يذكر بسينما تيرنس مالك ويرفع لها قبعته إعجابا. بداية الفيلم مع كايسي أفلك ورومي مارا تصورهما في سهوب تكساسية كما كان حال مارتن شين وسيسي سبايسك في فيلم «بادلاندز» قبل أربعين سنة كاملة. جمع بين شخصيات قابلة على التوهان ومناظر طبيعية شاسعة هي الثابت الوحيد في حياتهما.

بالنسبة لمالك، فإن «بادلاندز» وراءه وKnight of Cups أمامه هو وعدد آخر من المشاريع الجديدة التي يبدو الآن كما لو أنه يحاول الإسراع بتحقيقها لكي يعوض السنوات الطويلة التي قضاها في السبعينات والثمانينات بوصفه أحد أكثر مخرجي العالم كسلا. «فارس الكؤوس» يجمع بين كريستيان بايل ونتالي بورتمن وكيت بلانشيت في أجواء لم يقدم عليها مالك من قبل؛ إذ يعاين هنا الحياة الفردية تحت مظلات الأضواء الاجتماعية.. شخصيات اجتماعية مشهورة وكيف تلتقي وكيف تتناقض.

ولا شيء آخر معروفا عن هذا الفيلم الجديد سوى أنه ينتمي إلى ما عرف عن سينما مالك من حب للتأمل.. نعم الكاميرا في حالته تتحرك طوال الوقت، وتترك الممثل منتصبا يقول شيئا وتذهب بعيدا عنه أو تدور حول شيء آخر قبل العودة إليه، لكنها ما زالت تدعو للتأمل، شأنها في ذلك شأن عدد متزايد من المخرجين العالميين الذي يؤمنون بقيمة الكاميرا التي تحدق طويلا.

* كاميرا لا تزعج

* لكي يفكر ترنس مالك بتحقيق فيلم من نحو ساعتين أو أكثر يخصص أكثر من نصفه لتصوير كوني يشمل الحياة على الأرض وفي السماء وفلسفتي الزمن والنشوء، كما فعل حين أقدم على إنجاز عمله البديع «شجرة الحياة»، ولكي يوصل تلك الرسالة الروحية المتصلة بجوهر الدين والحياة على الأرض معا، اعتمد على عامل جواني جبلته الثقافة المنفتحة واستقلالية الرأي وما نشأ عليه من أوجه الحرية المختلفة. يساعده لتحقيق الغاية جمهور مختلف يفهم المقاصد الفلسفية والشعرية والجمالية والروحانية وافق عليها أم لم يوافق، ويرغب في مشاهدة أعمال تنحو بالمواضيع صوب لغات فنية منفردة. كلاهما؛ الداخلي والخارجي في العملية، لم ينشأ بقرارات ولا في دول ألزمت المواطن الفرد باتباع طريقها الخاص، بل ولم تفعل، في الأساس، أكثر من احترام حق الإنسان في حرية الرأي وحماية ذلك الحق بتجنيبه وطأة المتغيرات السياسية.. فالحكم هنا قد ينتقل من اليسار إلى اليمين، أو العكس، لكن حرية القرار والتفكير والإبداع لا تتأثر إلا بالعوامل الاقتصادية وحدها.

في آخر أفلام التركي نوري بيلج شيلان المنجزة حتى الآن، «ذات مرة في أناضوليا» (2011) مشاهد كثيرة لثلاث سيارات تشق ظلام الليل في هضاب وسهوب الأناضول في رحلة تطول لتشمل ثلثي الفيلم. تلك اللقطات الطويلة تبدأ كما لو كانت تبحث بدورها عن طريقها للوصول إلى المشاهد، لكنها لا تبحث طويلا، سرعان ما تتآلف والذين يدركون أن العمل آيل إلى عرض مشبع بتفاصيل الحياة والنفس البشرية تحت سماء بحث مواز لشخصيات الفيلم في ظاهره عن جثة ميت، وفي فحواه عن حقيقة السلوكيات البشرية. هذا بدوره لم يكن ليتم على هذا النحو لو لم تكن المعطيات الاجتماعية والثقافية متوفرة لطرح الفيلم أسلوبا ومضمونا.

هذان الفيلمان من بين عشرات الأعمال لعدد متزايد من المخرجين تترك الموضوع ينجلي من دون تدخل مونتاجي صارم، بكاميرا تتابع وترصد ولا تريد أن تزعج الممثل ولا الموقف بتوزيع أحجام لقطاتها. مثل مخرجيهما مالك وشيلان هناك اليوناني ثيو أنجيلوبولوس والياباني كون إتشيكاوا والروسي أندريه تاركوفسكي وحفنة أخرى من الذين يناهضون تعاليم المونتاج لا كما وضعها الروسي أيزنشتاين ولا كما أرست قواعدها هوليوود.

لكن ليس كل فيلم تأملي يحدق في الناس وفي الأشجار هو فيلم فني. في «فينيسيا» الذي يختم دورته يوم الأحد المقبل، فيلمان على الأقل ينهجان الفعل نفسه، لكنهما يسقطان من الحسابات الفنية قبل نهاية الدقائق العشر الأولى.. إنهما فيلمان صينيان معجونان بالادعاء: «إلى أن يفرقنا الجنون» لوانغ بينغ، و«كلاب ضالة» للتايواني تساي مينغ ليانغ. في الأول متابعة مملة من الدقيقة الأولى لمرضى مصحة عقلية، وفي الثاني متابعة أكثر إثارة للضجر لحكاية تتوزع على شخصيات لا تفعل شيئا عدا الظهور بحركات لا تعرف تماما كيف يمكن لها أن تؤسس لحكاية.

لكن ما الذي يجعل فيلما بطيئا مثيرا للإعجاب وآخر بطيئا مثيرا للضجر؟

* نقطة عند الأفق

* واحد من الاختلافات هو: ما الذي يصنعه المخرج عبر صورة لشخص أو مكان؟ تأخذ مثلا ذلك التقديم الرائع لشخصية عمر الشريف في «لورانس العرب»؛ إذ يبدو كنطفة سوداء عبر أفق صحراوي وفي لهيب شمس حارقة. تتابع الكاميرا تحول هذه النقطة الغامضة السوداء إلى شبح ومنها إلى فارس قبل أن نتبينه كاملا. هنا فعل الانتظار أثمر عن عدة ثمار من بينها منح إطلالة ذلك الفارس بعدا وتأثيرا على صعيد أهمية الدور المرتقب له كما على صعيد الممثل نفسه.

لكن ديفيد لين ليس من مخرجي سينما التأمل الطويل بالضرورة، ولو أن هذا المثال يجيب عما هو مقصود. أما المثال الأكثر فعلا والذي يمكن أن نعتبره نموذجا؛ فهو ذلك الكامن في الفيلم الرافض للمؤسسة «المقتفي» The Stalker للمخرج أندريه تاركوفسكي، أحد أفضل مخرجي العالم الذي، مثل ترنس مالك، باعد بين أفلامه؛ ليس بسبب الكسل؛ بل لأن النظام الشيوعي آنذاك لم يرغب في تمويل مشاريعه. المشهد المعني هو ذلك الذي يركب فيه العالم والمثقف والمرشد مركبة مكشوفة تنطلق على قضيبي السكة الحديد.. الكاميرا عليهم وهم صامتون لا يتحدثون ألبتة.. كل ينظر حوله.. التصوير انتقل من الأبيض والأسود إلى الملون. والكاميرا تتابع هؤلاء وهم يبدأون رحلة خطرة قد تكشف عن معنى للوجود. بعد خمس دقائق سيدلفون إلى المغامرة بوصول المقطورة إلى حيث ستتوقف. خلال ذلك تدرك أن هناك نفسا خاصا لتلك اللقطة الطويلة، النفس الذي هو نسيج الفن ورسالة الفيلم إلى الحياة.

* مالك وكوبولا وجيل السبعينات

* لم يبدأ تيرنس مالك بمعزل عن الموجة التي أفرزت مارتن سكورسيزي وفرنسيس كوبولا وبرايان دي بالما وآخرين، لكنه اختلف منذ أول أفلامه باختلاف مفهومه للمعالجة التي يريدها. في حين عمد الباقون، وعن جدارة، إلى الاستناد إلى أرضية الراوي كما نصت عليها تقاليد هوليوود مع تجديد في المعالجة وتفاصيله، ذهب مالك إلى أبعد من ذلك، فصنع أفلامه كاحتفاء بالصورة والجماليات أولا.. «بادلاندز» (1973) و«أيام الفردوس» (1978) كانا تمهيدان ناجحان لما تلا من أعماله.