مهرجان نيويورك في عامه الأول بعد الخمسين

كارثة 11 سبتمبر وتبعاتها لا تزال تلقي بظلالها

توم هانكس يحاول النجاة في «كابتن فيليبس»
TT

لا يتغير العالم وحده، بل تتغير مهرجاناته. صحيح أن كل مهرجان منها يقام في المدينة ذاتها التي انطلق فيها، إلا أن المدينة ذاتها تتغير، والثقافة التي تتطبع فيها تتغير بالنتيجة. هذا بالطبع عدا الإدارات والآفاق والاهتمامات والطموحات.

مهرجان نيويورك السينمائي الحادي والخمسين تقيمه «جمعية الفيلم في مركز لينكولن»، وبدأ عروضه هذا العام في 27 سبتمبر (أيلول) وحتى 13 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي عارضا على شاشاته أكثر من 100 فيلم في 15 قسما؛ منها 36 فيلما روائيا وتسجيليا طويلا في قسم «اختيارات رسمية». الفترة المذكورة كناية عن 17 يوما من النشاطات المختلفة، مما يجعله واحدا من أطول المهرجانات نسبة لعدد الأيام، في الوقت الذي تقلص فيه بعض المهرجانات الأخرى أيامها كل سنة أو سنتين.

قرار المهرجان الافتتاح بفيلم بول غرينغراس «كابتن فيليبس» كان اختيارا موفقا. المخرج الذي تعامل مع كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 بفيلم «يونايتد 93» قبل سبع سنوات، يعالج هنا حكاية واقعية أخرى موصولة بكل تلك التبعات التي لحقت بذلك التاريخ. ففيلمه الجديد مأخوذ عن كتاب وضعه كابتن ريتشارد فيليبس يصف فيه الأحداث التي تعرض لها حينما قام قراصنة صوماليون باحتجاز السفينة، وما سبق أن دار خلال المواجهة والدور الذي لعبته القوات البحرية الأميركية لإنقاذه ورهائنه. توم هانكس وجد الدور هدية ربانية كونه كان يبحث عن فيلم قوي يعيده إلى الساحة نجما، والمخرج استعان بوجوه عربية؛ بعضها صومالي، للبطولة بينها فيصل أحمد وبركات عبدي وبركات عبد الرحمن الذين حضروا الفيلم ووقفوا في نهاية الفيلم لجانب المخرج على المنصة في مواجهة جمهور أدى التحية إليهم وقوفا ولنحو خمس دقائق.

افتتاح المهرجان بهذا الفيلم مرده العلاقة الأليمة بين نيويورك وما حدث في الحادي عشر من الشهر التاسع من عام 2001 وتبعاته. تلك العلاقة التي تسببت، أو كانت أحد المسببات الأهم، في تأسيس مهرجان نيويوركي آخر سنوي ينظم في مطلع شهر مايو (أيار)، وهو «ترايبيكا» لرئيسه روبرت دي نيرو. لكن دورة نيويورك الحالية كان لديها ثلاثة اختيارات أخرى على الأقل: الافتتاح بفيلم «كل شيء ضاع» للمخرج ج. س. شاندور، لكن صرف النظر عنه سريعا لأنه عرض في مهرجان «كان» الماضي، و«ذئاب وول ستريت» لمارتن سكورسيزي، و«بلو جاسمين» لوودي ألان. لكن يبدو أن ذلك الرابط بين نيويورك والحدث الدامي تدخل في صنع القرار بالنسبة لفيلم سكورسيزي على الأقل الذي سينطلق للعروض التجارية في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، في حين تنطلق عروض «كابتن فيليبس» بدءا من هذا اليوم (11 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي) داخل الولايات المتحدة وفي نحو 15 دولة أخرى حول العالم.

لم يفوت مهرجان نيويورك فيلم شاندور «كل شيء ضاع». هذا فيلم رائع من بطولة نجم من جيل روبرت دي نيرو وآل باتشينو وكلينت إيستوود، هو روبرت ردفورد تحت إدارة مخرج برهن على ملكيته موهبة فذة من فيلمه الأول «نداء» Margin Call الذي كان أحد ثلاثة أفلام خرجت مع نهاية 2011 وبداية 2012 وتعاملت، مثل «ذئب وول ستريت» الحالي، مع متاهات الوضع الاقتصادي الذي انهار سنة 2008 ولا يزال يجر أذيال ذلك الانهيار إلى اليوم. الفيلمان الآخران هما الجيد أيضا «رجال الشركة» لجون وَلز، والفاشل طرحا ونتيجة «وول ستريت: المال لا ينام» لأوليفر ستون.

وفي حين استبعد المهرجان فيلم إيرول موريس الجديد «المعروف المجهول» (وحسنا فعل) استقبل فيلما تسجيليا طويلا آخر ينتقل من هموم اليوم إلى جذور الحركة الطلابية في جامعة بركلي في سان فرانسيسكو؛ البيئة التي أثمرت في النصف الثاني من الستينات أكثر النشاطات الطلابية صخبا سياسيا وتأثيرا في المشهد العام وذلك أيام القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى. المخرج فردريك وايزمان يعرض لحقبة كان فيها النشاط الطلابي في ذلك الركن الطبيعي الجميل من كاليفورنيا يعج بالأفكار السياسية والطموحات المثالية لعالم جديد. وبعض فيلمه يتساءل عما حل بتلك الطموحات وما تحقق (أو بالأحرى لم يتحقق) منها.

المواقف السياسية الرافضة لم تكن حكرا أميركيا في تلك الفترة، وفيلم المخرجة البولندية أنييسكا هولاند «الشجيرة المحترقة» The Burning Bush يدور حول الطالب الشاب يان بالاش الذي حرق نفسه خلال ما يمكن الآن تسميته «الربيع التشيكي» سنة 1969 احتجاجا على الغزو السوفياتي لبلاده.

ومن عروض المهرجان ما يعيده إلى دائرة صراع دائمة متمثلة في فيلم هاني أبو أسعد «عمر» أحد أفضل أفلام العام العربية الذي يتقدم باسم فلسطين إلى ترشيحات الأوسكار في مرحلتها الأولى الحالية. «عمر» كما مر معنا هنا، هو فيلم يفتح ثغرة جديدة في الموضوع الحاكي للوضع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت هيمنة القوات الإسرائيلية. مخرجه حذر جدا من تغليب العاطفة، وهذا سر من أسرار نجاح فيلمه هذا وفيلمه السابق «الجنة الآن» الذي نفذ إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية فعلا قبل بضع سنوات.

الأوسكار، المطروح حديثه بقوة، هذه الأيام فات فيلما لمخرج عربي آخر هو عبد اللطيف كشيش، كونه لم يعرض في الفترة السابقة لسبتمبر (أيلول) عرضا تجاريا. الفيلم هو «حكاية أديل» أو، كما سمي بالإنجليزية، «الأزرق هو اللون الأكثر دفئا» الذي يبدو كما لو كان المخرج حققه بغاية «البصبصة» على بطلتيه وهما تمارسان المثلية بوضوح على الشاشة. الفيلم نال ذهبية «كان» لكنه أبعد عن أن ينال إجماعا على إبداعه.

على جانب كل ذلك، يحتفي المهرجان النيويوركي بالمخرج الفرنسي جان - لوك غودار مختارا لهذه المناسبة 18 فيلما طويلا وعشرات الأفلام القصيرة التي حققها أحد رواد السينما الفرنسية الجديدة على مدى أكثر من حقبة.

في كل مرة يتم فيها العودة إلى هذا المخرج، هناك جيل جديد من الذين يتوقون لمشاهداتهم الأولى لأفلامه. غودار ترك في مطلع الستينات تأثيرا واسعا على كيفية صياغة الفيلم الطليعي ذي الأبعاد الشخصية والسياسية على حد سواء. ثم عاد وترك هذا التأثير على كل جيل لاحق منذ ذلك الحين. مهرجان نيويورك يعرض واحدا من أكثر عروض غودار التكريمية منذ ذلك التاريخ، مختارا أفلاما جديرة بالاكتشاف أو إعادة المشاهدة من «ألفافيل» (1965) إلى «فيلم سوشياليزم» (2010) مرورا بأفلام منسية له، مثل «زمرة من المغتربين» سنة 1964، وأحد اقتباساته الأدبية القليلة كونه مستلهم من رواية «ذهب الأغبياء» لدولوريس هيتشنز، أو حاضرة دوما كحال «اسم أول: كارمن» (1983).

* استعادات

* أحد أقسام المهرجان، الذي لوحظ حضورا مكثفا له، هو «إحياء» الذي يستعيد بعض كلاسيكيات الأمس مع الأخذ بعين الاعتبار ألا تكون من تلك التي ما زالت منتشرة. هذا العام هناك «المطاردة» لآرثر ريبلي (1946) عن رواية كورنل وولريتش «الممر الأسود للخوف» و«رجال شهوانيون» لنيكولاس راي، وكذلك الفرنسي «العناية الإلهية» لألان رينيه، وأيضا فيلم مارتن سكورسيزي «عصر البراءة» (1993).