موت وقصيدة غيرة

د. ريموت بن كونترول

TT

افاقت بريطانيا منتصف هذا الاسبوع على خبر رحيل النجمة التلفزيونية بولا ييتس في ظروف غامضة تشبه روايات جراهام جرين الذي لا يكشف العقدة مباشرة لكنه لا يعقد الامور كثيرا بحيث تستطيع ان تخمن النهاية لوحدك حتى وان تركت الفيلم في منتصفه او الرواية بعد قراءة ربعها الاول.

ومأساة بولا، وهي زوجة سابقة لبوب جيلدوف ثم مايكل هتشنس، انها لم تستطع ان تكون سعيدة مع ان الحياة اعطتها النجومية والمال مبكرا وكانت السعادة دائما تحت قدميها، وفي مرحلة من المراحل اوشكت ان تكون النجمة التلفزيونية الاولى. لكن بعض الشخصيات تركبها الكآبة المزمنة كلما اوغلت في سلم النجاح الذي ينهار تحت اقدامها بسبب ظروف عائلية وشخصية معقدة يصعب التحكم فيها، فبولا ييتس فعلا مثل ابطال جراهام جرين يخفون دائما هيكلا عظميا في الخزانة، كما يقول الانجليز للاشارة الى اخفاء الاسرار القديمة التي تواصل التحكم في حياتهم.

لقد اكتشفت النجمة الراحلة قبل سنوات انها ليست ابنة ابيها، وانتحر زوجها الثاني وحيدا في غرفة معزولة باستراليا. هذه المآسي الجماعية المتتالية تهد اقوى الرجال فما بالك بفتاة رقيقة كانت ذات يوم زهرة التلفزيون البريطاني ومخترعة فكرة مقابلة النجوم في السرير وليس في المكاتب والشوارع؟! وكما يليق بفيلم تراجيدي متوسط الطول ـ وهكذا كانت حياة بولا ييتس ـ وجدوها ميتة في سريرها وحولها الكثير من زجاجات الفودكا الفارغة ومعها الكثير من الاسرار والالغاز التي تنتظر من يفكها ويحل عقدها، وكانت هناك ـ وهنا المأساة الكبرى ـ طفلة عمرها اربع سنوات، حاولت ان توقظ امها فلم تستطع، فجلست بجوارها تبكي الى ان جاءت مكالمة من احدى الصديقات لتقود الى اكتشاف الجثة.

هذه الطفلة التي كانت نائحة بجوار امها حين فارقت الحياة، اصبحت يتيمة، ومجهولة المصير، فوالدها انتحر لاسباب غير معروفة، وقد يكتشف الاطباء ان والدتها حاولت الانتحار او اسرفت في تعاطي الحبوب المهدئة. وبذلك ـ ومهما كانت نتائج التحقيق ـ فقد ظلت وحدها، وهي بالكاد تمشي، فهل هناك اصعب من ان يبدأ الانسان الحياة هكذا بداية؟

وما دامت بولا ييتس قد ذكرتنا بجراهام جرين، فلا بأس من الاشارة الى اخر افلامه، وهو فيلم «نهاية علاقة» الذي ينتهي بموت ومأساة عاطفية وانسانية متشعبة، هذا الفيلم الذي لم يقيض له النجاح ولم يصمد طويلا في صالات العرض السينمائية، يصعب تلخيصه، فهو متشابك وشديد الكثافة، وكان يمكن ان تصنع منه عدة افلام بدلا من فيلم واحد.

وفي قلب الحبكة العاطفية لفيلم «نهاية علاقة» هناك الحبكة البوليسية والاستخباراتية. فروايات جرين وافلامه لا تخلو من المخبرين فهم يتدخلون في السياسة، وفي الجرائم، وفي قصص الحب ايضا، وقد صار لهم حضورهم المميز في هذا الفيلم لان بطله وعشيق بطلته المتزوجة بدأ يشك في سلوكها، فاستأجر مخبرا ليراقبها، ثم قام الزوج باستئجار ذات المخبر لمراقبة العشيق واكتشاف مكان الزوجة الهاربة معه.

وكان صديق الزوج قد اقام علاقة مع الزوجة ثم بدأ يغار عليها لانها ترفض مواعيده، وصار يطاردها شخصيا ويرسل خلفها المخبر وابنه، ثم يغار من المخبر لانه يحصل على معلومات عنها اكثر من تلك التي عنده. وتوصله رقابته الذاتية الى بيت قسيس يقتحمه ظنا منه انه قد عثر على الغريم فلا يجد هناك غير المزيد من الشكوك التي ترش الملح على الجرح.

ان فيلم «نهاية علاقة» قصيدة حقيقية عن الغيرة، لكنه وعلى غير المتوقع، ينتهي بالتصالح بين الزوج والعشيق وعيش الثلاثة في بيت واحد لان البطلة مريضة ولم يبق امامها غير ثلاثة اشهر لتموت، ونقطة ضعف الفيلم ايقاعه الرتيب وحرص المؤلف على الشرح والتفسير من وجهات نظر عديدة، فمرة نسمع الاحداث من وجهة نظر الزوج هنري، ومرة ثانية نقرأ الاحداث في مفكرة الزوجة سارة، التي سرقها المخبر، ودائما نعود الى البطل وهو روائي ايضا، لنسمع شرحه للاحداث من وجهة نظره. وكافة هذه التقاطعات تربك من لم يتعود على الحبكة البوليسية التي يجيدها جراهام جرين دائما وفي هذه الرواية بشكل خاص. فهناك من يقول ان الفيلم والرواية نابعان من تجربة شخصية عاشها المؤلف في شبابه ووضع فيها كل ولعه بلعبة العشاق والمخبرين الذين يجعلهم احيانا ظرفاء كما فعل في هذا الفيلم الذي يصارح المخبر العشيق خلاله بأن الطلاق غير ممكن من الزواج الا بوجود صور تثبت العلاقة الاخرى. وهكذا يصعد الحبيب الى حبيبته ويقودها بهدوء باتجاه النافذة في احد فنادق برايتون البحرية ثم يقبلها في ذلك الموقع ليتيح للمخبر فرصة تصوير دليل اثبات الخيانة! وعودة الى نهاية حياة بولا ييتس التي ذكرتنا بنهاية علاقة لا تستطيع الا ان تلاحظ بأن الكآبة هي مرض الانجليز الرئيسي، فهم ولكثرة ما يكبتون للتظاهر باللياقة واللباقة، يتحطمون من الداخل وتستحيل عليهم مواصلة الحياة الطبيعية. فهنري زوج البطلة في نهاية علاقة مثل بولا ييتس، يعيش كآبته المزمنة والمعدية التي تنتقل منه الى كل من حوله.

وبسبب هذه الخلفيات لا يخلو فيلم انجليزي من مشهد في المقبرة، فاللغز لا يمكن حله الا في اللحظات الاخيرة، ومن قبل الذين يحضرون مراسم الجنازة. فهل سنعثر على لغز رحيل بولا ييتس المفاجئ سريعا في جنازتها، ام سننتظر تحقيقات الشرطة التي لا تريد، كالاعلام، ان تتسرع في اعلان نتائج تحقيقاتها؟

ان غياب نجمة جميلة ومثيرة للجدل وهي في الاربعين، مسألة محزنة، لكننا ولكثرة الدراما الحية في حياة هذه النجمة لا نستغرب ان تتحول حياتها سريعا الى فيلم. ففي عمرها القصير الذي استهلكت فيه زوجين وعشرات العشاق وانجبت خلاله اربعة اولاد، كل العناصر التي تضمن انتاج فيلم ناجح عن امرأة قلقة وكئيبة بحثت عن السعادة في القارات الخمس، ونسيت ان تفتش عنها داخل نفسها.