«القداس» الرفيع لباخ: ملحمة روحية باتجاه سعة الأفق واحتضان التعارض

TT

ما «القداس» الموسيقي؟ في المصطلح دلالة دينية بالتأكيد. فقد بدأ غناء القداس كشعيرة دينية في الكنيسة الكاثوليكية وكنص مؤلف موسيقيا، في القرن الرابع عشر. ثم بدأت مرحلة تطعيمه بالحان من موسيقى الحياة غير الدينية في القرن الخامس عشر. في القرنين السابع والثامن عشر تطور دور المغني المنفرد داخله كما بدأت مرحلة جديدة لفهم الدور الاوركسترالي. وبهذين اصبح «القداس» Mass فنا موسيقيا كوراليا قائما بذاته ومستقلا عن الكنيسة التي انجبته. ولكن اي فن موسيقي رفيع (أو غير موسيقي) لم يخرج من محيط المشاعر الدينية؟

فن «القداس» عادة ما يتألف بنيانه من خمسة اجزاء محددة النص اللاتيني: تبدأ بطلب الرحمة من الله، ثم تمجيده ثم توكيد الايمان به، ثم مباركته.. وهكذا. وهذه الاجزاء اصبحت ارحب في تفرعها فصار الجزء الاول في ثلاثة فروع، والثاني في ثمانية.. وهكذا.

ان الخبرة الموسيقية تطورت في معالجتها لهذه الاجزاء الخمسة حتى اصبحت، كفن «الاوراتوريو» الكورالي الدرامي، وسيطا للتعبير الفني والروحي والفكري للمؤلف. ولعل اعظم عمل يمكن ان يتصدر هذا الفن في ارفع مستوياته هو قداس «باخ» الشهير Mass in Bminor. وضع يوهان «سباستيان باخ (1685 ـ 1750) عمله هذا في مرحلة عمره الاخيرة في مدينة لايبزج، ولقد امتدت سنوات التأليف المنقطعة المتأنية خمس عشرة سنة الا ان «باخ» لم يكن منصرفا اليه وحده فقد ألف فيها شوامخ موسيقاه منها قرابة 250 «كانتاتا» للاوركسترا والغناء البشري، وهي بحر لآلئ ومجرة كواكب. ومنها «احزان القديس ماثيو» او متى، واوراتوريو عيد الميلاد، وتنويعات غولد بيرغ على آلة الهاربسيكورد، وعمله المركب الاخير الذي لم يتمه «فن الفيوغ».

«القداس إن بي ماينر» كان وليد رغبة داخلية لدى «باخ» لا استجابة لطلب ولا نتاج واجب وظيفي. رغم ان معظم اعماله، وقد ألفها استجابة، لم تخرج الا عن وجدانه العميق الرحب. بدأه عام 1733 في الجزءين الاولين ثم اكتملا في ما بعد. وكان انصرافه الحر له دليل دافع فني داخلي خالص، وكأن «باخ» في هذه المرحلة الاخيرة، وقد اكتمل الفنان الامهر في داخله، اراد ان يترك للاجيال عينة لكمال فنه هو. فما عاد في تلك السنوات الاخيرة كثير الحماس لمنصبه كأستاذ موسيقى، ولا للتأليف الذي يمليه العمل. ولذلك قدم «فن الفيوغ» عينة لموسيقى الآلات، و«القداس» هذا عينة للموسيقى الكورالية.

بعد الانتباهة التي بدأها مندلسون باتجاه موسيقى «باخ» صار الالتفات اليه والاستغراق فيه ديدن الموسيقيين جميعا. ولا نريد ان نطيل بهذا الشأن، فهذه السنة التي هي سنة «باخ» تحمل في طياتها كل يوم اكثر من شاهد على هذا الولع الاحتفائي، في قاعات العزف وفي دور نشر الكتب ونشر الاسطوانة.

كان «القداس» هدفا ساميا لا يحيد عن تأمله الموسيقيون: مغنون منفردون، ومغنو كورس، وعازفون منفردون وعازفو اوركسترا، وقواد اوركسترا، كل يريد ان يجرب حظه في «تفسير» مرامي «باخ» حتى اجتمعت من هذه المساهمات تفسيرات عديدة، لعل اكثرها شعبية كان عزف الالماني «كاريان» (1950) بسبب استخدام الكورس والاوركسترا الضخمين. وكذلك كليمبْر، ثم جاء الموسيقي الاميركي «ريفكن» في اول الثمانينات ليعيد موسيقى «باخ» وعزفها الى ما كانت عليه بين يدي «باخ» وفي مرحلته، حيث كان الكورس محدودا ويتكون من المغنين المنفردين انفسهم، لا يتجاوزون الاربعة يقابلهم اربعة ثانويون من نفس الطبقة. ان كلا من ضخامة المدرسة القديمة وحميمية المدرسة الجديدة، التي عادت الى الآلات والتوزيع الاصلي، يبدو ملائما لباخ، ويشبع حاجة عند المستمع، للغنى الموسيقي. فأنا احتفظ بـ «كاريان» و«كليمبْر» والاوسع «ريختر»، وحين اطمع بالانفراد مع اصوات المغنين والعازفين في فسحة اصغر والى مناخ ذلك القرن الثامن عشر اخرج اسطوانات «ريفكن». على ان اجتهاد الالماني «هورننكورد» يرى بان «باخ» كان يستخدم الاطفال لكورسه، ولذلك يبدو عزفه ذا طعم خاص. ولعل اقربهم الى النفس عزف الانجليزي «جون إليوت غاردنر» لانه احتفظ بتقليد الكورس الكثيف الصخم، الى جانب اعتماده حميمية المغنين المنفردين في الاداء الجماعي الذي يحتاج الى هذه الحميمية.

وضع «غاردنر» تسجيله عام 1985 (شركة Archiv) مع فرقة «مونتفيردي» للغناء ومجموعة ممتازة المستوى من المغنين المنفردين لعل ابرزهم «مايكل تشانس» (طبقة كونتر تينور) واداؤه في اغنيتين «آغناس دي» و«كوي سيديس» لا يقارنان الا باداء المغنية الانجليزية الراحلة «كاثلين فرير» (طبقة آلتو). وكذلك مع عازفي فرقة «الباروك الانجليزية» خاصة عازفي آلة الفايولين المنفرد والفلوت والاوبو والبوق، لان «باخ» في جزء «التمجيد» وضع اربع اغنيات لا تستنفد مدى العمر لكل من صوت «السوبرانو» مع الفايولين المنفرد، وصوت «التينور» مع آلة الفلوت المنفرد، وصوت «الآلتو» مع الة الأوبو، وصوت «الباص» مع آلة البوق.

هذا تسجيل اعيد نشره من جديد هذه الايام من سنة «باخ». ولقد صاحب نشره من قبل «اركايف» مشروعها الكبير الذي يقوم به «غاردنر» نفسه في عزف كل «كانتاتات باخ» مع العلم ان هذه الكانتاتات، انجزت كاملة ونشرت من قبل قواد اوركسترا عديدين منهم «هورننكورد» و«ريلنغ» و«سوزوكي» و«كوبمان» واخيرا «ليوسينك» وقد حاز مشروعه وهو ما زال في اوله، اعجاب نقاد الموسيقى.

ان الجزء الاول وحده من «القداس إن بي ماينر» بلحن «الفيوغ» المركب الطويل ليستحق رتبة سامية في مراتب الفن. اما العمل كله فملحمة روحية ستظل تشغل كل مفكر جدي بمسألة الجمال وما يقود اليه من خلاص روحي باتجاه مزيد من الرحابة وسعة الافق والعمق واحتضان التعارض.

=