عبقرية جويا السوداء في فيلم غرائبي أخاذ

كاد الرسام يموت مسموما على يد ملكة إسبانيا الغيورة

TT

يبدأ فيلم «جويا في بوردو»، للمخرج كارلوس ساورا، بداية سوريالية (غرائبية) لفيلم مصنوع من مشاهد بصرية مذهلة. في مشهد الافتتاح نرى ثورا ذبيحا، طريح الارض، وسط بركة قذارة من الدماء، لكن الذبيحة تبدأ فجأة، وبصورة محيرة وغامضة، بالارتعاش، وتدب فيها الحياة بالتدريج، فتجر نفسها بنفسها على خطاف لتعليق اللحم، يشبه المشنقة. واذ تتدلى ذبيحة الثور هذه، بثقل اللحم والعظام فيها، من الخطاف حتى لتكاد تخلعه، يبرز فجأة وجه انسان، وجه طباشيري اللون، من بين ضلوع القفص الصدري المقطوعة، ليطل علينا: انه وجه الرسام الاسباني فرانسيس جويا، الذي عاش في القرن الثامن عشر.

لكن هذه الصور الجارحة، شأنها شأن كل ما يرد في مونتاج السيرة الذي ابدعه مخرج مشهود بابداعاته البصرية الجريئة، لا تأتي بالمجان. فهي تستعيد بقوتها روح التصوير عند جويا نفسه، الذي مات في المنفى في بوردو (فرنسا)، وتصوره بوصفه ثورا هائجا في اهاب بشر، وفنانا رائيا استطاع بأعماله الثاقبة ان يميط اللثام عن أقبح حقائق بني البشر بلا ادنى تهيب.

بعد المشهد الافتتاحي المزخرف، تتعقب الكاميرا الفنان جويا (يقوم بالدور فرانسيسكو رابال)، الذي يبدو وكأنه قد عاد لتوه من عالم الموتى، أو يبدو كمن اودع السجن، فنراه ينهض في قميص النوم، ويتعثر، وهو يسير في ممر غامض، شبحي، يقوده الى شوارع بوردو. في المشهد التالي نراه طريح الفراش وقد حنت عليه ابنته القلقة، روزاريو (تقوم بالدور دافني فيرنانديز). ويروي للابنة الغضة، المحبة، سيرة حياته وزمانه في نوبات محمومة، جامحة.

ويسرد علينا قصة حياة حلوة، سردا تتخلله صور ذهنية وبصرية للفنان وهو يستعيد من شيخوخته (82 سنة) ايامه الخوالي، فيحكي عن الحب والفن والتاريخ والسياسة ومأساة الوضع البشري: «البشر اسوأ من الحيوان لأنهم يدركون ما يفعلون من شر» حسب قوله.

ويمضي الفيلم: استذكارات شيخ مريض في حوار مع صغرى بناته (التي تبلغ منتصف العقد الرابع). ففي هذا العمر بالذات كاد جويا ان يموت اثر مرض غامض اصابه بالصمم الدائم، وبأوجاع رأس حادة لا تنقطع. اما شفاؤه فيرتبط بمنعطف فني حاد دفعه الى اعتناق اسلوب ومعالجة مواضيع اكثر واقعية وقساوة، وقاده الى سلسلة الحفر الفظيعة المعروفة باسم «كوارث الحرب».

ليس من المغالاة في شيء ان نقول إن فيلم «جويا في بوردو» مضرج بالدماء الى درجة انها قد تسيل من الشاشة. لقد كان المخرج ساورا، في افلامه القديمة مثل «فلامنجو» و«تانجو»، مغرما، شأنه شأن معاونه فيتوريو ستورارو (المختص بالمشاهد والاضاءة)، بالافكار البصرية على الشاشة، وهو افتتان دفعهما الى اللعب بالالوان، فصارا كمن يلقي اواني من الالوان على الشاشة، ان الفيلم الجديد يتفجر بنفس هذه الاحاسيس، بالغزارة البصرية الدفاقة بلا حد.

ان العديد من مشاهد الفيلم هي محاكاة للكثير من لوحات جويا المعروفة، من ذلك لوحة السكيرة «دوقة البا»، وهي عشيقته النارية، التي تتحول في الفيلم الى عين شريرة، تقود الى الحياة، وتصير ما يشبه ملك الموت، لتلقي ظلها الرهيب الزاحف ببطء على وجه جويا، الذي يصارع ليستجمع قواه الخائرة، حتى يطرد شبحها. وتقوم بدور الدوقة الممثلة مارييل فيردو، وهي امرأة جاذبة، ترسل موجات الخطر الجامح، والحسية المثيرة بأداء اخاذ. ويعترف جويا لابنته انه كاد يموت مسموما على يد ملكة اسبانيا الغيورة، ماريا لويزا، بالتآمر مع وزير البلاط جودوي، الذي كان عشيق الامرأتين.

يعرض الفيلم مزيجا من شظايا التاريخ والخيال والسيرة والفن والتقولات والشائعة، وهو مزيج متماسك، رغم غياب السرد المحرك، بفضل قوة الخيال وصرامة الحوار.

هناك لحظات يتجاوز فيها الفيلم حدود المعقول، خصوصا في المشاهد القريبة من النهاية.

يستخدم المخرج فرقة كاتالانية، هي فرقة لافورا ديلس باوس، لكي يجسد، عبر الراقصين، 17 لوحة من الحفر على الخشب المعروفة باسم «كوارث الحرب» على ايقاع موسيقى شوستاكوفيتش السيمفونية. وهو يحاول بذلك استثارة الطابع الملحمي للمأساة في اللوحات كما في الموسيقى.

معلومات عن الفيلم العنوان: جويا في بوردو تأليف واخراج: كارلوس ساورا ناطق بالاسبانية مع ترجمة انجليزية تصوير: فيتوريو ستورارو توزيع: شركة سوني للافلام الكلاسيكية طول الفيلم: 94 دقيقة

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»