مشاهد درامية من التاريخ لا يربطها معنى مع الحاضر

«آخر همسة» على المسرح القومي في القاهرة

TT

على مدى أربع ساعات كاملة قضيناها متشبثين بمقاعدنا داخل المسرح القومي لمشاهدة العرض المسرحي «آخر همسة» للمؤلف والمخرج هاني مطاوع، ظللنا نسأل أنفسنا عن سر فلسفة اختيار العرض لشخصية الملك فاروق بكل ملابسات ورائحة عصره بطلاً للأحداث أمامنا لعلنا نلتقط ولو طرف خيط نتشبث به. لكن بدلاً من أن نتوصل لتصور يفسر لنا لب العرض، إذا بدهشتنا تتصاعد كلما استوقفتنا نقاط مثيرة دعتنا لتأملها داخل العرض، كما دعتنا لتلمس حدود التداخل بينها وبين العرض السابق لنفس المخرج والمعد الدرامي «يا مسافر وحدك» الذي قدمه القومي منذ وقت قريب ولعب بطولته نور الشريف.

فمن المتعارف عليه في أبجديات الدراما أن دافع المؤلف المسرحي لاختيار واقعة تاريخية، هو ايجاد خط يربطها بعصرنا الحاضر بشكل ما كي يبرر بعثها من مرقدها ويوظفها ليطرح من خلالها ما يريد توصيله لمتلقي اللحظة الحياتية الآنية. وبتطبيق هذه البديهية على عرض «آخر همسة» فسنجد أن الأحداث تقع في عصر ما بعد قيام الثورة وأن المواطن عبد الرؤوف المصري (سامي عبد الحليم) ومعه العمدة السابق عبد الودود كشك (مخلص البحيري) بسبب مشكلة ما يتجاذبان أطراف الحديث في أحد أقسام البوليس أمام ضابط وصحافي شاب، وبعدها شدا الرحال سوياً بكل طيبتهما وسذاجتهما إلى روما لمقابلة ملك مصر السابق فاروق (هشام عبد الحميد) المقيم هناك منذ ثلاثة عشر عاماً. أما المصري فيريد نصح ابنه المتهور الذي هجر دراسة الهندسة إلى السينما، بينما يريد كشك توقيع فاروق على ورقة تفيد منحه البهوية بتاريخ قديم كي يستحق لقب «بك سابقاً» وهو الذي دفع ثمن البكوية مقدماً ثم أطاحت الثورة بآماله.

ومنذ المشهد الافتتاحي وحتى نهاية العرض لم نعرف عن هاتين الشخصيتين المحوريتين أكثر مما عرفنا، ولم يسمح لهما المؤلف باثراء تركيبتهما الدرامية وتطويرها بأي سبيل ولم يحتفظ لهما بأي ثقب جديد يفاجئان به المتلقي فتحولا لنموذج للشخصية ذات المنظور الدرامي الأحادي التي لا تستثير تفاعل المتلقي، ولم يعد أمامنا سوى احترام المجهود الوافر للممثلين المخضرمين عبد الحليم والبحيري ومحاولاتهما المستميتة بخبرتهما وجديتهما الشديدة ملء التجويفات الدرامية السحيقة المستشرية في دوريهما كعمق المحيط. وتفرغنا بقية العرض لمتابعة تنقلهما مع فاروق من مكان لآخر حتى النهاية، حيث وظف العرض هذا التنقل للاقتراب من فاروق ـ كما يتصور المؤلف ـ من خلال استعراض بعض الشخصيات الشهيرة التي قابلها البطل في حياته أثناء حكمه لمصر والمستقاة من حقائق تاريخية بالأحداث والأسماء لكن دون طرح وجهة نظر تستثير تأويلاتنا. فشاهدنا الفتى الأسكندراني مسعد (أحمد حبشي) الذي يعمل بملهى وزميلته (ألفت أشرف) التي تشبه شخصية فاطمة طوسون، وفاطمة هي واحدة من الكثيرات اللاتي حاول فاروق اغوائهن دون جدوى; وقد عادل العرض محاولات فاروق افساد حياة فاطمة بقتل فاروق للفتاة الشبيهة بطريق الخطأ وكأنه يستعيد مشهد الماضي ولا يتعلم.

وفي اطار الانجراف مع حنين النوستولوجيا شاهدنا أو بمعنى أدق حشر المخرج في طريق فاروق شخصيات من المشرق والمغرب مثل رأفت الهجان (عاصم نجاتي) وسرينا (ياسمين النجار) وضابط المخابرات نديم هاشم (عماد العروسي)، بالإضافة لعدة شخصيات يهودية تحاول اغراء فاروق وتعلن طمعها في مصر مثل ايلي (عهدي صادق) واليجرا (نرمين كمال) التي قلدت الفنانة نجمة ابراهيم. كما جرت وقائع مواجهة بين فاروق والفنانة الراحلة كاميليا (لقاء الخميسي) الذي افترض المخرج نجاتها من حادث الطائرة الشهير وتشوهها، واصرارها بصفتها من أصل يهودي على توقيع فاروق على عقد بيع أراض مصرية. لكن فاروق يغضب ربما بدافع وطنية لا نعرف مصدرها، علماً بأن العرض حرص منذ البداية على تقديمه في ثوب اللصوصية والسطحية والشراهة الجنسية والاستهتار بكل شيء دون مبرر درامي منطقي.

ثم انتقل العرض لعلاقة فاروق المرضية بوالدته الملكة نازلي وعلاقتها بحسنين باشا، ولا مانع أن يمر العرض في طريقه على شخصية الملكة فريدة زوجة فاروق السابقة التي أحبها الشعب.

ورغم طول زمن العرض الشديد وتعدد المرادفات والاطالة اللانهائية، لم ينجح العرض في الاقتراب من أي شخصية من هؤلاء وغيرهم بما فيهم فاروق حتى شعرنا أننا نتجول داخل متحف ندير رؤوسنا على الحوائط لنسمع قصاصات مبتورة عن شخصيات من الزمن البعيد لا علاقة لنا بهم ولا يمثلون لنا شيئاً في عصرنا الحاضر. والمشكلة المربكة بحق أننا إذا افترضنا الاستغناء عن عدد من الشخصيات والمشاهد المزدحمة للغاية داخل شبكة علاقات ممزقة من أساسها، لما حدث أي خلل درامي على الاطلاق. والمشكلة الأكبر هي تعدد المناهج المتناقضة داخل العرض حتى درجة الانفصام التام.. فمثلاً اكتشفنا في نهاية العرض أن كل هذه الأحداث هي في الواقع أحداث فيلم استوحاه الصحافي الذي ظهر في المشهد الافتتاحي، وأن مخرج الفيلم هو ابن الراحل عبد الرؤوف المصري. اذن فنحن أمام لعبة داخل لعبة تستلزم على الأقل توحد في منهج التمثيل والسينوغرافيا. فبينما اختار الممثل هشام عبد الحميد وعاصم نجاتي وعماد العروسي المنهج الكاريكاتوري الساخر المفتعل، انتهج باقي الممثلين جميعاً المنهج التمثيلي المعتاد فأصبحنا كأننا نشاهد عرضين لا عرضاً واحداً متسق الرؤية والوحدة. ولم نستطع مطلقاً اكتشاف سبب واحد للزج بشخصيات الهجان ونديم وسرينا داخل الأحداث المفترضة، وتلك السخرية المريرة التي تعامل بها الممثلون مع الشخصيات التي لعبوها; وإذا كان من العبث افتراضنا سخريتهم من شخصيات وطنية بارزة دون مناسبة فممن كانوا يسخرون اذن؟ أم أنهم كانوا يحاولون مثل هشام عبد الحميد الذي كان يطلع علينا فجأة بتقليد زكي رستم ويوسف وهبي، لاستدرار ضحكات مغتصبة من المتلقي الصامد أربع ساعات في محله. كما يفترض أن روح الدراما تنتمي لعالم الفانتازيا واللعبة المسرحية المتداخلة، لكن اضاءة (عاصم البدوي) واستعراضات (كريم التونسي) وديكور (د. سمير أحمد) كانوا كغيرهم في واد آخر تماماً لا علاقة بالبنية الأساسية للعرض على حالها هذا. فقد اتخذت وحدات الديكور المنهج الواقعي البحت وتميزت بكثرتها دون داع مما عطل الانتقال بين المشاهد، اضافة لانغلاق عمق المنظور بشدة والألوان الكالحة المسيطرة وعدم ثبات الوحدات الواضح حتى بدت كمن يترنح من الارهاق قبل النوم.

وكي يكتمل حفل المفاجآت الدرامية الصادمة حاد المؤلف عن توحيد منهج طرحه للشخصيات دون مبرر كالمعتاد، فرغم التزامه منذ البداية الوقائع والأسماء التاريخية حرفياً دون الاستعانة بحرية خيال الابداع، إلا أنه باغت المتلقي باستيقاظ خياله في احياء شخصية كاميليا مما جعل البعض ينساق في محاسبة المخرج على هذه البلبلة التاريخية ولم يمنحوه الحق في التحليق بخياله في هذه الشخصية تحديداً دون غيرها وهو الذي فرض عليهم اللجوء لنصوص التاريخ كما أنزلت. أما الغريب بحق أن الحال قد تغير في الثلث الأخير من العرض، حيث لاحظنا ارتفاع مستوى الكلمة والاخراج قليلاً فلملم الايقاع الداخلي أشتاته بعض الشيء وهو ما انعكس بجلاء على الممثلين والمتلقي، كما لاحظنا التشابه الكبير بين تكنيك هذا الجزء والمشهد الختامي في مسرحية «يا مسافر وحدك» حتى التطابق وكأننا نعيش اللحظة مرتين. واذا تغاضينا عن اقتباس المؤلف والمخرج من عروضه السابقة وافترضنا امتلاكه القدرة على تقديم ثلث ساعة مقبولة، فمن اذن الذي كتب وأخرج الثلاث ساعات ونصف المبعثرين السابقين! وبعد كل ذلك لم نعرف لماذا فاروق اذا كان قد انتفى عنه الأركان الدرامية الأساسية وأبعاد الرمز؟ هل يريد محاسبته وعصره؟ هل يريد تمجيد الثورة كلما اتضح فساد فاروق؟ هل هو انبهار بالماضي المتأجج الأحداث؟ ماذا يريد أن يقول لنا ولو بأسلوب غامض؟ هذا ما فشلنا في تخمينه حتى الآن.

=