المشهد

TT

* كان الجمع الذي التقى في تونس أخيرا تنادى بإصدار مجلة سينمائية متخصصة. واحد اقترحها شهرية، والآخر فصلية، والثالث عارضها أصلا. في حين أن بعض المنادين كانوا في الواقع يبحثون عن عمل؛ فإن الذي عارضها يعمل براتب محدد، مما يعني أن الوضع الاقتصادي بالنسبة لنقاد السينما تدخـل، ولو جزئيا، في هذا القرار.

* ليس خطأ إصدار مجلة سينمائية. لكن الخطأ هو عدم معرفة كيف يمكن لها أن تستمر، وتاريخ مجلات السينما العربية شاهد على أن الكيفية هي أهم من الفكرة. وكانت مجلات سينمائية تحت أكثر من اسم أصدرتها وزارة الثقافة المصرية في عصور غربت، وأدت واجبها وتداولت شؤون السينما وجوانبها وفنانيها، على نحو شهري أحيانا، وفصلي أحيانا أخرى. النشر كان مؤمنا، كون جيب الوزارة كبيرا ويستطيع تحمل التكاليف ويعمل على غير حسابات التجارة. لكن هذا ولـى عصره. فالتفت الممثل محمود حميدة إلى المشروع بحماسة وأصدر مجلة جيـدة، جرى إيقافها بعد حين لأكثر من سبب. في الوقت ذاته، حاولت مجلات أخرى الصدور وتوقـفت أو عجزت عن البيع، وإحداها كانت على غرار «برميير» الفرنسية مع خليط من «توتال فيلم» البريطانية، لكن ذلك لم يشفع لها وتوقـفت بدورها.

* في لبنان، المجلة السينمائية الوحيدة التي صدرت بالعربية في تاريخه هي «فيلم» التي صدر منها 34 عددا أسبوعيا قبل إفلاسها. وفي فرنسا، صدرت مجلة «سينما» التي كانت فكرة جيـدة، بقيت محدودة الجغرافيا وتوقـفت قبل عامها الثالث. وفي سوريا وتونس والمغرب وما سواهم، إصدارات توقـفت، كل لسبب، لكن الجامع بين هذه الأسباب واحد: لا يوجد رواج جماهيري لها.

* أي مشروع يـراد له أن يرى النور اليوم، عليه أن يتحاشى كل الفخاخ التي سقطت فيها المشاريع السابقة، وفي مقدمتها أن هذه المجلات لم تقم على تجارب صحافية، بل على حب الحضور وحده. كذلك، قتلها حب التنظير الذي لا يفارقنا. نحب أن نظهر أننا نفهم سينما فنكتب ديباجات مطولة، ونترجم وننسب الترجمة لأنفسنا ونعتقد أن الجمهور غافل أو مغفـل، بينما معظمه تجاوز الكاتب وربما كان أذكى منه وأكثر علما أيضا.

* في عصر الإنترنت، لا بد من تشكيل جديد لمفهوم أي مجلة، والمجلة المتخصصة بالتحديد. مجلة «سينما»، التي كان عيبها أنها انتمت إلى شلـة كل من فيها كتب على منواله، كانت صائبة في اختيار خط معيـن. لكن التطبيق لم يكن صحيحا، وفي ضمنه التسويق والتوزيع. أهم ما تحتاجه مجلة سينما حديثة (وعليها أن تكون شهرية أو لا تكون)، هو أن تبقى على صلة صافية الغايات مع فئات المشاهدين، جاعلة «الفيلم»، الذي هو وسيلة صلة هذه الفئات، المحور الوحيد لها. وأن تتبع المنهج الصحافي، فتترك المقالات التنظيرية والدراسات الأكاديمية بعيدا وتصبو إلى أن تكون مرآة لما يحدث اليوم. والأهم، أن ينتقى لها نقاد يحترمون ذكاء القارئ (ليس فقط الأفلام الرديئة هي التي عليها أن تفعل هذا)، ويبتعدون عن الغايات والمصالح، ومفهوم «الأنا» الطاغي بيننا حتى ليظن البعض أن الدنيا ستتوقـف لو سمح لنفسه ببعض التواضع والألفة.

* الحب هو ضد الأنانية والمصلحة الخاصة، فإما أن تحب السينما وتهبها حياتك وإما أن تعدها بحرا تصطاد فيه حين تريد. الأول له طريق طويل من التضحيات التي تحتاج إلى شجاعة وثبات، والثاني سراب جميل، لكنه يبقى سرابا.