آخر طبعة من «سيدتي الجميلة»

TT

العشرات من كتاب المسرح العالمي اقتربوا من اسطورة «بجماليون» وصاغوها للمسرح، وأشهر هؤلاء عربياً في القرن العشرين توفيق الحكيم، وفي اوروبا جورج برناردشو الذي صارت مسرحيته عن بجماليون «سيدتي الجميلة» اسطورة أخرى، خصوصاً بعد النجاح المعروف في تحويلها إلى فيلم قامت ببطولته أمام ريكس هاريسون الشاسعة الفتنة والرقة اودري هيبورن.

وبعد دهر من ذلك النجاح الذي اوصى برناردشو بعائداته المادية لتنفق على تدفئة قراء مكتبة المتحف البريطاني، اخلاصاً منه للمكتبة التي دفأت عظامه في أيام الفقر والتشرد، أقول بعد دهر من ذلك النجاح الذي لا يضاهى قامت فرقة فنية باحياء «سيدتي الجميلة» للمسرح في عرض نجح جزئياً لكنه لم يعمر طويلاً مما حير النقاد الذين لم يتوقعوا ان يفشل أي عرض من «سيدتي الجميلة» نظراً لتجذر تلك المسرحية في الوجدان الجماعي وثباتها في الذاكرة والمخيلة لأكثر من نصف قرن.

والسر في عدم النجاح أو لنقل الفشل الجزئي للعرض الجديد يكمن في ان الذين اشرفوا على انتاجه اخذوا الفيلم الناجح وارادوا تطبيقه على الخشبة، فكل من شاهد تلك المسرحية حديثاً في العاصمة البريطانية لاحظ ان المخرج والمنتج يقدمان عصيراً قديماً في قوارير جديدة.

وليت الأمر يقف عند الحوار فقط، فالملابس ذات ملابس الفيلم القديم وكذلك الديكور والقبعات والموسيقى والمؤثرات الصوتية التي استخدمت في ميدان سباق الخيل حين تصرخ اودري هيبورن بالعبارة التي تخدش حياء الارستقراطية الانجليزية وتجعل شاباً من تلك الارستقراطية يقع لأجل تلك العبارة النابية في غرامها ويذهب ليقضي الليالي تماماً كما روميو مع جولييت تحت شرفتها.

ولا بد من الاعتراف بأن جوناثان برايس بصوته الضعيف وادائه الشاحب لم يستطع الارتفاع الى حجم ذلك الدور التاريخي الذي أداه بتفوق لا يضاهى سلفه ريكس هاريسون.

وكان برناردشو قد ابتكر شخصية «البروفيسور هيجنز» للسخرية من المثقف الانجليزي في بداية القرن العشرين واظهار حجم عدائه للمرأة، فأغنية البروفيسور هيجنز الشهيرة في ذلك الفيلم: «لن ادع امرأة تدخل حياتي ابداً»، تتم تأديتها حرفياً ايضاً ولكن أين الثريا من الثرى وأين ريكس من جوناثان.

واسطورة بجماليون لمن لا يعرفها عن حكاية نحات يبالغ في صقل تمثال أنثوي مرمري الى ان ينطق من شدة جماله ومن كثرة ما وضع فيه الفنان من روحه تحت طرقات الإزميل، وتستخدم هذه الاسطورة عادة في الإشارة إلى كل من يخلق شيئاً مميزاً من طينة تافهة، وهذا عين ما يفعله البروفيسور هيجنز في مسرحية «سيدتي الجميلة» حين يلتقط من الشارع فتاة عامية لهجتها من أقبح ما يمكن وسلوكها شديد الهمجية ثم يقرر ان يدربها على أصول الكلام والإتيكيت ويحولها الى نسخة من السيدات الارستقراطيات اللواتي كانت تعج بهن لندن أيام صبا برناردشو ويظهر تكلفهن اكثر ما يظهر في حفلات سباق الخيل التي يبالغن خلالها في لبس القبعات الغريبة والملابس الاستعراضية التي تستخدم فقط في تلك المناسبات.

وليختبر البروفيسور هيجنز الفتاة التي صنعها من خامة شعبية، يأخذها معه إلى ميدان سباق الخيل ويدعوها الى مقصورة أمه، حيث تقوم بمجموعة طرائف تضحك الخيل نفسها لكن لا أحد يستطيع ان يكتشف حقيقتها، فقد نجح النحات في صنع بجماليون وجعلها تنطق بعد تدريب طويل بلغة كأنها تلقتها من ارقى المعاهد الاكاديمية التي ترتادها الارستقراطية.

والشخصية الثالثة في المسرحية بعد البروفيسور و«مس دوليتل» شخصية الكولونيل «بيكرنج» المهتم باللغويات ايضاً والذي يأتي من الهند حين كانت مستعمرة بريطانية ليقابل البروفيسور هيجنز الذي ضرب صيته الآفاق في معرفة اللغات واللهجات وفي العرض الجديد لـ «سيدتي الجميلة»، يضيع دور الكولونيل كما ضاع دور البروفيسور وكل هذا يمكن تعويضه لو كانت الممثلة التي تقوم بدور «مس دوليتل» متألقة كأودري هيبورن.

وقد قامت بالدور مارتي ماكاتشن، ومع انها ممثلة جيدة لم تكن المقارنة لصالحها ولن تكون فكل من يتصدى لدور قامت به الممثلة الاسطورية اودري هيبورن لا يستطيع الزعم انه تفوق على الأصل.

وما كان المطلوب من جوناثان برايس ان يتفوق على ريكس هاريسون ولا من مارتي ماكاتشن ان تتفوق على هيبورن، كان يكفي فقط ان يؤديا الدورين بشكل مقنع، وهذا لم يحصل، فقد كان برايس ورطة حقيقية للدور، في حين كانت ماكاتشن مقبولة الى حد ما ولكن ليس إلى ذلك الحد الذي ينسي الناس اداء هيبورن.

ان وضع اللوم على عاتق الممثلين مسألة غير عادلة، فالسبب الاساسي لعدم النجاح استعارة الفيلم بكامله وتحويله الى مسرحية دون اجراء أي تعديل، وفي هذه الحالة لن يتعب الناس أنفسهم في الذهاب الى المسرح ولن يدفعوا خمسين جنيهاً لمشاهدة عرض أقل جودة من فيلم يمكن استعارته بجنيهين من أي محل من محلات الفيديو.