من ثمار الحداثة الانجليزية وما بعدها

TT

إن تذوق عمل موسيقي حديث جداً يتطلب أذناً ذات دربة في كل مراحل الموسيقى الكلاسيكية السابقة. ولكن هذه القاعدة قد تؤدي أحياناً الى نتيجة متعارضة، تكون فيها الأذن ذات الدربة متمنعة في مواجهة ما هو غريب عليها، رافضة لمذاقه جملة. ولكن الأذن، حتى في الحالة الثانية، لا تحتاج إلى شيء اكثر من الوقت لكي تلين وتستجيب. وهذا ما حدث لي في السنوات الأخيرة، حتى صرت على شيء من الظمأ للمتابعة، ولتأمل ما أقع عليه من إصدارات الموسيقيين المعاصرين. صرت أحس أن هناك مواطن في النفس الانسانية بعيدة الغور لا تبلغها الا محاولات الموسيقي المحدث، الذي صار محيطاً بالكثير من وسائل المعرفة الحديثة بالنفس الانسانية.

صحيح أن معظم المحاولات الجديدة تبدو تقنية في ظاهرها، ولكن التقنيات ليست الا وسائل استثارة. وما على الأذن إلا الانقياد. فالذي يبدو ضجيجاً أو صرخة أو صوتاً هامساً إنما تحمله المفاجأة لا المنطق الميلودي الذي الفناه في العمل الموسيقي الرومانتيكي أو الكلاسيكي.

دار NMC معنية منذ سنوات بالموسيقى الجديدة الانجليزية. أصدرت مؤخراً اسطوانتين، واحدة لـ «جون وولرتش»، والاخرى لـ «هيو وود». جون وولرتش (مواليد 1953) بدأ نشاطاً حقيقياً منذ أواسط الثمانينات حتى تجاوزت أعماله المائة، من أوبرا وكونشيرتو وأعمال أوركسترا وآلات منفردة. وفي كل اعماله تلاحق تضمينات من أعمال الاسلاف: موتسارت، فاغنر، شومان، ولكن بخيوط لحنية تتوازى ولا تتقاطع، أو تتقطع هي نفسها لتعكس موضوعاً على شيء من التعقيد، مستوحى من مادة أدبية، مثل المقطوعة الأولى التي بعنوان «ساعة الحلاق». التي ألفها بعد قصة للايطالي ايتالو كالفينو حول ساعة واصلت قروناً في دقة الوقت حتى أصبحت للقرويين محجة لمعرفة الغيب: «أيتها الساعة، متى تنتهي متاعبنا؟» أو «أيتها الساعة متى يحين الموت؟». والساعة تجيب: «تيك توك. تيك توك. ربما للذي لا يغني/ تكون الحياة طويلة». طبعاً في العمل الموسيقي ما من كلام، فالآلات تقوم مقامه. البيانو تتك والآلات الهوائية تؤدي الأغنية.

في الاصدار عمل آخر مستوحى من الأدب هو «شبح في ماكنة» عن قصة لـ «كوستلر». يبدأ اللحن الضخم مع ستة أبواق متجانسة ثم يتواصل عبر خمسة مقاطع متنقلاً بين آلات الفيولا والهوائيات الخشبية ثم المترددات ثم يعود في الخاتمة الى الأبواق وهي تحولات في ربع ساعة يلوح فيها النظام واللانظام العقلاني والحدسي.

العملان الآخران لـ «وولرتش» هما كونشيرتو لآلة الأوبو الهوائية مع الاوركسترا تهدف الى مصطرع درامي بين الآلة الواهنة العذبة وبين قوى الأوركسترا الكاسرة، وكونشيرتو لآلة الفيولا مع الأوركسترا، وهو عبارة عن سبع «أغنيات دون كلمات»، في كل مقطع أغنية لآلة الأوبو تعيد أصداءها الأوركسترا.

كل فنون الرحيل والتحول والدراما والأغنية تتم تحت تنازع قوتي الانسجام والتنافر، وتكاد هذه الخصيصة تكون أبرز خصائص الموسيقى الكلاسيكية الجديدة، التي تنتسب الى ما بعد الحداثة الغربية.

اسطوانة هيو وود (مواليد 1932) تضم عملين كبيرين أوركستراليين، بالرغم من ميله الدائم للتأليف لموسيقى الغرفة وللأغنية، حيث وضع الحاناً كثيرة لقصائد: اليوت، لورنس، روبرت غريفز، بابلو نيرودا، تيد هيوز. وهو مثل وولرتش كثير التضمين من اعمال الاسلاف: موتسارت، فاغنر، إلغار، سترافنسكي... على أنه يحكم حياكة تضميناته بنسيج موسيقاه هو. ويتضح هذا في عمله «سيمفونية» في حركاتها الأربع المتواصلة دون انقطاع، حيث لا تضعف الاستشهادات العديدة من تماسكها. في مفتتح الحركة الأولى العاصف نحس بنذير منتزع من عالم موسيقى مالر، واذ ندخل الحركة الثانية دون فاصل نمر بمارش مأخوذ من أوبرا «الناي السحري» لموتسارت، ومن مشهد عبور النار الاختباري، وهنا يحاول المؤلف ان يكشف عن صراع بطله الموسيقي مع القدر. ما تبقى من السيمفونية حركتان تعتمد الأخيرة مجموعة من التنويعات تحاول أن تقتنص الجمال.

العمل الثاني «مشاهد من كوماس» غنائي اوركسترالي يعتمد نصاً درامياً شعرياً للانجليزي ميلتون وضعه عام 1634، ويدور حول سيدة تبحث داخل غابة غامضة عن أخوتها المفقودين، تواجه الساحر كوماس وجماعته الذي يغويها بالانضمام اليه.. ولكنها تفلت حرة أخيراً. العمل تؤديه السوبرانو جيرالدين ماكريفي والتينور دانيل نورمان تحت قيادة أندرو ديفس.

الاصداران عينة ممتازة لما بعد الحداثة الانجليزية في حقل الموسيقى، بالرغم من أن وولرتش ووود يمثلان جيلين بينهما عشرون عاماً. الموسيقى لديهما لم تنتصر للنزعة التقنية المتطرفة، والميلودي لم يفتقد كلية بل يصطرع مع ما يعارضه من تنافرات. وهناك دائماً سياق في النمو أو التنويع يجعل المستمع، بأناة يسيرة، يطمئن إليه والى الرحلة الغنية بالثمار.

Hugh Wood: Symphony.. (NMC) John Woolrich: The Ghost.. (NMC)